هل يملك قيس سعيّد شجاعة الاعتراف بالفشل؟
لا يكفّ الرئيس التونسي، قيس سعيد، عن إدهاشنا، وما زلنا نحسّ بحالة عجز عن معرفة حقيقة ما يدور في ذهنه، سواء فيما يتعلق برغباته وطموحاته الشخصية التي يسعى إلى تحقيق ذاته من خلالها، أو بما يريد أن يصنعه للبلد الذي استطاع أن يصل إلى موقع القيادة فيه في ظروف استثنائية. إنه شخصية تنتمي، أولا وقبل كل شيء، إلى فئة النخب الأكاديمية التي يجري صقلها داخل الجامعات ومراكز البحث العلمي، ولم يُعرف عنه في فترة تكوينه العلمي، أو تقلده المناصب الأكاديمية التي تولّاها، اهتمام خاص بممارسة العمل السياسي أو الانخراط في أنشطة الأحزاب أو مؤسسات المجتمع المدني. بل تدل تصرفاته الحالية بوضوح على محدودية درايته بطبيعة النخب السياسية في تونس، وعدم إلمامه بخريطة هذه النخب وبتوجهاتها الفكرية والأيديولوجية. وربما يفسّر هذا صعوبة تخمين الأسباب الحقيقية التي دفعته إلى الترشّح في انتخابات الرئاسة التونسية عام 2019، وما إذا كانت تصرّفاته الحالية، والتي يبدو واضحا أنها تستهدف إقامة نظام سياسي تونسي جديد يختلف كليا عن النظام السياسي الذي أفرزته "ثورة الياسمين"، تعكس "رؤية أكاديمية" محضة كانت تدور في عقله قبل انتخابه رئيسا للبلاد، باعتباره أستاذا متخصّصا في القانون الدستوري، أم أنها نتاج خبرة مباشرة استمدّها من أوضاع عدم الاستقرار التي سادت البلاد عقب توليه المسؤولية الرئاسية.
كان من الواضح، منذ اللحظة الأولى لتولّي قيس سعيّد مهام منصبه أنه لا ينوي الالتزام بدستور 2014، رغم أنه الدستور الذي انتخب على أساسه رئيسا، وأقسم بنفسه على احترامه. وكان من الواضح أنه يسعى، بإصرار، على توسيع صلاحياته، ليصبح له القول الفصل والكلمة الأخيرة في تشكيل الحكومة، بصرف النظر عما يقضي به الدستور من إجراءات، خصوصا ما يتعلق منها باستحقاقات حزب الأغلبية البرلمانية، أو بالدور الذي على البرلمان القيام به في هذا الصدد. لذا اضطرب دولاب العمل خلال عامي 2019 و2020، ولم تستقر الحكومات التي تشكّلت تباعا، بل وصل الأمر إلى حد رفضه تأدية إحدى الحكومات التي أقرّ البرلمان تشكيلها القسم أمامه، بحجة أنها تضم عناصر تحوم حولها شبهة فساد، وكأنه الجهة الوحيدة المخوّلة منح صكوك النزاهة وفرز الصالح من الطالح في دواوين الدولة. كما رفض إصدار قانون أساسي يتعلق بتشكيل المحكمة الدستورية العليا أو إجراء أي تعديل دستوري يفتح الطريق أمام تشكيلها، وذلك لأسباب إجرائية وشكلية بحتة، كان يمكن التغلب عليها بسهولة. ولم يكن لهذا الموقف من تفسير آخر سوى رغبته في أن يزيح من طريقه أي مؤسسةٍ قادرة على تقييد حريته في إصدار ما يشاء من مراسيم يريد أن تكون لها قوة القانون.
عندما أصبحت الساحة السياسية خالية تماما إلا من سعيد، شرع في اتخاذ الإجراءات اللازمة لصياغة دستور جديد على مقاسه هو
استغلّ الرئيس قيس سعيّد الفرصة التي سنحت أمامه، حين خرجت مظاهرات بأعداد كبيرة يوم 25 تموز/ يوليو عام 2021 تطالب بحل البرلمان، ليبدأ في اتخاذ جملةٍ من الإجراءات التي استهدفت تعطيل الحياة السياسية بالكامل، كي يصبح هو المتحكّم الأوحد في كل مفاصلها، فأقدم على إقالة الحكومة، وأعلن رفع الحصانة عن نواب الشعب، وشكّل بنفسه حكومةً مسؤولة أمامه وحده، وليس أمام برلمان منتخبٍ جرى تعليقه، وبدأ يدير الدولة بمراسيم رئاسية لا تستطيع أن تبطلها محكمة دستورية عليا أو يراقب تنفيذها برلمانٌ منتخب، بل قرّر أن يرأس النيابة بنفسه.
ولم تكن هذه المجموعة من الإجراءات سوى حزمة واحدة راح يكملها بأخرى متتالية، إلى أن تمكّن، في النهاية، من أن يجمع في يده كل السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، فحلّ مجلس نواب الشعب، بعد مد فترات تجميده عدة مرّات، وبحل المجلس الأعلى للهيئات القضائية المنتخب وفقا لدستور 2014، وعين مكانه مجلسا جديدا يمكن أن يحله إذا لم ينصع لإرادته، وأطلق العنان لسلسلة من المحاكمات والاعتقالات، استهدفت تشويه سمعة شخصيات سياسية بارزة، وإشاعة حالة من الخوف تكفي لردع المحتجين على قراراته الفردية، وتحجيم قدرة النخب السياسية على الحركة وعلى الحشد الجماهيري. وعندما أصبحت الساحة السياسية خالية تماما إلا منه، شرع في اتخاذ الإجراءات اللازمة لصياغة دستور جديد على مقاسه هو، تم الاستفتاء عليه بالفعل واعتماده يوم 25 تموز/ يوليو الماضي. وقرّر إجراء انتخابات نيابية وفقا للإجراءات المنصوص عليها في الدستور الجديد، انتظمت جولتها الأولى بالفعل يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول الحالي، غير أن هاتين الخطوتين تحديدا، أي الاستفتاء على الدستور والجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية، كانتا كاشفتين عن رفض الشعب التونسي المشروع السياسي والنظام الرئاسي الاستبدادي الذي حاول سعيّد إرساء دعائمه.
النظام السياسي الجديد الذي أراد قيس سعيّد تثبيت دعائمه في تونس، وهو نظام رئاسي بحت، يقلل كثيرا من دور السلطة التشريعية
نظّم الرئيس قيس سعيّد "استشارات إلكترونية" هدفت إلى استطلاع رأي الشعب التونسي فيما ينبغي أن تكون عليه التعديلات المطلوب تضمينها نصوص الدستور الجديد، غير أن نسبة المشاركين في هذه العملية جاءت أقل من 6%. وشكّل لجنة استشارية برئاسة الفقيه الصادق بلعيد، كلفت بصياغة مشروع الدستور والقانون الجديد للانتخابات. وبعد الانتهاء من صياغة مشروع الدستور المقترح، وطُرح النص الذي سيجري الاستفتاء عليه من خلال وسائل الإعلام لتعريف الرأي العام به، اكتشف رئيس اللجنة المكلف أنه يختلف عن النص الذي انتهت إليه اللجنة، وامتلك ما يكفي من الشجاعة للتصريح علنا إن النص المطروح للاستفتاء "ليس هو الذي أقرّته اللجنة وأنه يحتوي على مخاطر كبيرة وأوجه قصور كثيرة". وكان الطبيعي أن يحس قيس سعيّد بقوة الطعنة التي وجهت له، فلم يكن لهذا التصريح الجريء سوى معنى واحد، أن الرئيس أعطى لنفسه الحق في أن يحذف ويضيف ويعدّل من النص الأصلي الذي تقدمت به لجنة من الخبراء كان قد شكّلها بنفسه. لذا يمكن القول، من دون أي تجاوز، أن النص النهائي الذي طرح للاستفتاء هو من إعداد الرئيس، أو صيغ على مقاسه وحده.
وإذا أضفنا إلى ما تقدّم أن الرئيس سعيّد حلّ أيضا الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، ونصّب هيئة جديدة بدلًا منها، وأنه أصدر مرسوما رئاسيا بتعديل قانون الانتخابات، لإحلال نظام الاقتراع على الأفراد بدلًا من القوائم؛ ما يعني عمليًا منع مشاركة الأحزاب، وفتح الباب أمام وصول نوابٍ لا رابط بينهم، بما يضعف إمكانية تكوين كتلٍ برلمانية قوية ومتماسكة قد تتحدّى الرئيس وسياساته، وأن نسبة من شارك في الاستفتاء على الدستور لم تتجاوز 30% من إجمالي الناخبين، ليتبين لنا بوضوح تام أن النظام السياسي الجديد الذي أرد الرئيس قيس سعيّد تثبيت دعائمه في تونس، وهو نظام رئاسي بحت، يقلل كثيرا من دور السلطة التشريعية، ومن قدرتها على إحكام الرقابة على أداء السلطة التنفيذية المركّزة في شخص رئيس الدولة وحده، لا يحظي بحجم التأييد الجماهيري الذي حاول الرئيس قيس سعيّد أن يوحي به في البداية. وحتى إذا اعتبرنا أن نسبة المشاركة في التصويت على مشروع دستور 2022 تبدو معقولة نسبيا، بالنظر إلى حجم المشاركات السابقة في الاستفتاءات التونسية عموما، فقد جاءت الانتخابات التشريعية التي جرت في 17 ديسمبر/ كانون الأول الحالي وكأنها حلقة جديدة في مسلسل تعرية موقف الرئيس التونسي تماما، والإفصاح عن عزلته المتنامية، وتخلي الشارع السياسي التونسي عنه، وبالتالي سقوط مشروعه السياسي، فحين يقرّر ما يقرب من 90% من الناخبين الامتناع عن المشاركة في أول انتخابات تشريعية تجري بعد إقرار الدستور الجديد. وعندما لا تستطيع هذه الانتخابات جذب سوى 11% فقط من الناخبين، وفقا لتقديرات اللجنة العامة الرسمية المشرفة عليها، أو 2% فقط من الناخبين، وفقا لتقديرات بعض أوساط المعارضة، فمن الطبيعي والمنطقي أن نرى في تلك المظاهر دليلا قاطعا على أن الشعب التونسي يرفض العودة إلى نظام استبدادي قد يكون أسوأ من نظام الحبيب بورقيبة أو من نظام زين العابدين بن علي.
ساعدت قوة المجتمع المدني في تونس على تحييد دور الأجهزة الأمنية والحيلولة دون تمكينها من ركوب ثورة الياسمين وسرقتها
لا يتسع المقام هنا لتحليل الأسباب التي مكّنت قيس سعيّد من الانفراد بالساحة السياسية على هذا النحو، في دولة ألهمت "ثورات الربيع العربي"، وقدّمت النموذج الأكثر حيوية ونجاحا في الاقتراب من المعايير الديمقراطية الصحيحة، فقد ساعدت قوة المجتمع المدني في تونس على تحييد دور الأجهزة الأمنية والحيلولة دون تمكينها من ركوب ثورة الياسمين وسرقتها، كما حدث في دول عربية أخرى.
صحيحٌ أن الانقسام الكبير الذي تعاني منه النخب السياسية التونسية منذ فترة ليست قصيرة ساهم في التمكين لشخصيةٍ وصلت إلى السلطة بالطريق الديمقراطي من الإمساك بكل خيوطها والعمل على تنصيب نفسه "ديكتاتورا منتخبا"، غير أنني أعتقد أن المجتمع المدني في تونس ما زال يملك من الحيوية ما يمكّنه من إجبار قيس سعيّد على الاعتراف بوصوله إلى طريق مسدود، وبأن مشروعه الاستبدادي ليس له محلّ من الإعراب في دولة مثل تونس. دليلنا على ذلك أن الاتحاد التونسي للشغل، وهو إحدى مؤسسات المجتمع المدني التي تحظى بمصداقية كبيرة، داخل تونس وخارجها، ولها ثقل جماهيري واضح، بدأ يتخلى عن مواقفه المهادنة للرئيس في البداية، وأصبح أكثر وعيا بخطورة المشروع السياسي الذي يحاول الأخير تمريرَه وفرضه على الشعب التونسي. .. فهل يساعد هذا المتغيّر الجديد في إقناع الرئيس قيس سعيّد بأن مشروعه للانفراد بالسطة قد وصل إلى طريق مسدود، وأن الأوْلى به أن يبدأ في البحث عن مخرجٍ مشرف، عبر حوار مجتمعي حقيقي؟ أتمنى ذلك، وآمل أن يتحلّى الرئيس التونسي بشجاعة الاعتراف بالفشل، فهذا أشرف له من التسبّب في قيادة البلاد نحو كارثةٍ سوف يدفع ثمنها الجميع إن أصرّ على الاستمرار في غيه.