هل يقف اللبنانيون خلف قاضيهم طارق بيطار؟
أعادت اشتباكات بيروت في 14 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري أشباح الحرب الأهلية اللبنانية التي اندلعت شرارتها العام 1975، واستمرت 15 عاما إلى الواجهة، سيما بمفرداتها المكانية التي تمحورت في خط تماسّ عين الرمانة/ الشياح ومحور مستديرة الطيونة. وعبر التلويح بالحرب الأهلية، افتعلت تلك الاشتباكات بوصفها بروفا لما يمكن أن يحدُث لو استمر القاضي طارق بيطار يترأس التحقيقات في حدث الانفجار في مرفأ بيروت. وهو سلوك اتبعته المنظومة الحاكمة، سعيا إلى عرقلة التحقيقات في الانفجار. وإن تلازم التلويح بعودة هذه الحرب بدايةً، أكثر من مرّة، مع الانهيار المالي والاقتصادي، للهروب إلى الأمام وتغطية محاسبة المنظومة السياسية الحاكمة، فقد أخذ حيز التنفيذ، هذه المرّة، على خلفية إزاحة القاضي بيطار عن مهمته في ملف تحقيقات انفجار المرفأ الذي حدث في 4 أغسطس/ آب 2020، وراح ضحيته أكثر من مائتي قتيل ومئات الجرحى، وتدمير مئات المباني والمحال التجارية والشركات والممتلكات العامة والخاصة، وتصدع آلاف المنازل في عموم العاصمة بيروت، في ما اعتبر من أضخم الانفجارات عبر التاريخ.
يبدو أن القاضي بيطار يمسك على أهل السلطة أدلةً دامغةً دفعته إلى إصدار مذكّرات توقيف واستجواب وملاحقات قضائية عديدة
يبدو أن القاضي بيطار يمسك على أهل السلطة أدلة دامغة دفعته إلى إصدار مذكرات توقيف واستجواب وملاحقات قضائية عديدة، منحته جرأة وشجاعة لم يعهدها اللبنانيون من قبل، فبعد استبعاد القاضي السابق، فادي صوّان، وتعيين القاضي طارق بيطار خلفا له، طالبت مجدّدا رموز المنظومة ذاتها التي استبعدت صوّان باستبعاد القاضي بيطار عن ملف تحقيقات المرفأ، ليس لشيء إلا لأنه، هو الآخر، تجرّأ على اتخاذ خطواتٍ عمليةٍ بملاحقة المسؤولين المتهمين عن الجريمة المروّعة، مهما علا شأنهم، والبدء بملاحقة هؤلاء واحدا تلو الآخر لاستجوابهم. ويبدو أن هناك مسؤولين سيصل إليهم دور الملاحقة أيضا على خلفية قانونية محضة، فمن طبيعة القاضي أن يقوم بعمله. ومن شأن الدول أن ترتكز على حكم القانون. وأن يكون الجميع تحت سقف القانون، وإلا لن يكون هنالك دولة أو عدالة تُسائل وتحاسب. ومن طبيعة المجرمين أن يهربوا أو يتهرّبوا من المساءلة والمحاسبة. لكن حين يكون المجرم من فئة حاميها حراميها، ويجلس في سدة السلطة أو كان يجلس فيها، يصبح تهرّبه من المساءلة، وهذا أبسط الإيمان، الذروة في الوقاحة والفجور. وتهرّب رموز المنظومة السياسية من المساءلة بحد ذاته جريمة يعاقب عليها القانون في أي بلد.
ويبدو أن المساءلة بشأن تخزين نترات الأمونيوم في المرفأ، وأدّى إلى الانفجار، عدة سنوات، لا بد أن تطاول جميع الذين مرّوا على السلطة في تلك الفترة من تخزينها، أيا كان مركزهم. وتاليا مسؤوليتهم عن الانفجار، إن تواطؤا أو إهمالا، أو عن تصميم.
ولعل السلوك الإجرامي للمنظومة الحاكمة لا يفاجئ أحدا في لبنان والعالم، فهي باتت النموذج الأكثر فجاجة للفساد في العالم، ليس في حجم النهب الممنهج الذي مارسته عقودا فحسب، بل أيضا في الفسادين، الإداري والأخلاقي الفاقع، لممارساتها في إدارة البلد. رئيس تلو آخر وحكومة تلو أخرى، وبرلمان يتبعه برلمان، وانهيار معلن يجري ببطء ثم يتسارع ويتسارع في السنوات الأخيرة، وإذ باللبنانيين في وسط كارثة مالية واقتصادية تراكمت، رغم الأنوف التي زكمها الفساد، وجرّدتهم من ودائعهم، وأفرغت خزينة لبنان من أي مالٍ يمكن له أن يقدّم الخدمات للبنانيين التي يدفعون ضرائبها وفوقها الرشاوى التي يجب دفعها، كي يتمكّنوا من إنجاز معاملاتهم بسهولة ويسر.
اشتباكات الطيونة والشياح وعين الرمانة ستكون لحظة مفصلية في تاريخ لبنان
التهديدات التي طاولت القاضي فادي صوّان هي ذاتها التي تطاول القاضي طارق بيطار، تحت ذرائع التسييس وافتعال الفتنة. وعلى ألسنة رموز المنظومة السياسية ذاتها التي طردت صوان، وجاءت ببيطار مهلّلة مرحبة، ظنا منها ربما أنه سيغضّ النظر في تحقيقاته عرفانا منه بجميلها، لكن حسابات حقلهم لم تتطابق مع بيدر تورّط هذه المنظومة بغالبيتها في انفجار المرفأ. وعلى الرغم من رفع الملاحقين قضائيا دعوى كفّ يد القاضي بيطار عن تحقيقات انفجار المرفأ بدعوى "الارتياب"، والتي خسروا فيها، وعلى الرغم رفع من الدعوى ذاتها لمحكمة التمييز التي خسروا فيها أيضا أمام القاضي بيطار، فإن ذلك لم يثنهم عن العمل على إقصائه. بل وصل الأمر إلى حد إطلاق تهديداتٍ ضمنيةٍ وعلنيةٍ على لسان أمين عام حزب الله، حسن نصرالله، لكفّ يده عن هذا ملف المرفأ.
ومن يراقب تطوّرات الأمور في ملف انفجار المرفأ يدرك بسهولة أن الهجمة على القاضي طارق بيطار وقبله القاضي فادي صوّان، كما التقاعس والتباطؤ في مباشرة التحقيقات قبلهما، تشير بأصابع الاتهام فعليا إلى من يتهجّمون عليه. بل ربما يفيد بأن لدى القاضي بيطار ما يعرفه وما هو متأكّد منه، سيما أنه يقف هادئا صامدا ثابتا أمام شتّى الاتهامات والتهديدات التي تمارسها رموز منظومة المحاصصة الطائفية الحاكمة والمتحكّمة بالرقاب والعباد في عموم لبنان، بكل طوائفه ومناطقه. اتهامات وصلت إلى حد التلويح بالقبع والإقصاء والحرب الأهلية. وهي اليوم تنفذ تهديداتها بالنار وعنف الشوارع والأحياء وإسقاط الحكومة إن لم تمتثل في إزاحة القاضي طارق بيطار عن تحقيقات انفجار المرفأ. بل وتفضح نفسها وتكشف تورّطها من أعلى هرم في السلطة إلى أدناه بكل ما أوتيت من غطرسة القوة وفجاجة السلوك الإجرامي.
المنظومة السياسية الحاكمة في لبنان تفضح نفسها وتتخبّط على وقع الفضيحة وانهيار سمعتها وشرعيتها
اشتباكات الطيونة والشيّاح وعين الرمانة ستكون لحظة مفصلية في تاريخ لبنان. هي فرصة أيضا ليتمسّك اللبنانيون واللبنانيات بسلطة القضاء واستقلاليته، وبدولة القانون الذي من غيره لا وجود لشيء يدعى دولة، وذلك بوقوفهم سدّا منيعا لحماية القضاء والقضاة. ليس فقط من أجل تحقيق العدالة من أجل ضحايا انفجار المرفأ، بل من أجل امتلاك مفتاح الخروج من الأزمة الطاحنة التي تهدّد حياتهم ومستقبل أبنائهم ووطنهم. فرصة لنصرة استقلالية القضاء، فهو مفتاح الخروج من الانحطاط الأخلاقي المديد الذي تجلّى بأوجهه الطائفية والعنصرية، ويكاد يمسّ ضمير كل لبناني ولبنانية في مواجهةٍ مع الذات الفردية والجمعية سعيا إلى الخلاص من هذه المنظومة الفاسدة والمفسدة، وإلا ستحلّ فوضى مرعبة تنشأ على أنقاض كارثة اقتصادية ومالية واجتماعية ومعيشية وأخلاقية، أين منها الحرب الأهلية الماضية.
السؤال في لبنان بعد هذه الاشتباكات كبير وكبير جدا. وهو ليس رهنا بالقاضي طارق بيطار، أو الجسم القضائي النزيه والشجاع، بل هو سؤال برسم اللبنانيات واللبنانيين، بكل طوائفهم وفئاتهم وشرائحهم العمرية، لا سيما أن المنظومة السياسية الحاكمة تفضح نفسها وتتخبّط على وقع الفضيحة وانهيار سمعتها وشرعيتها وبلوغها حدود العجز المطلق من قدرتها على الحكم والتسلط.
السؤال بعد هذه الاشتباكات المريبة هو امتحان أخير للإرادة الوطنية المستقلة والتحرّر من الخوف، لأن الجواب عنه مفتاح التغيير والخروج من الهاوية، وإلا فمن بعده الطوفان.