هل يقف العالم على أعتاب انفلات الجائحة مجدّداً؟
وكأنّ البشرية على موعد مع موجة جديدة من جائحة كورونا (كوفيد – 19)، يحذّر منها خبراء ودول ومنظمة الصحة العالمية. للتأكيد، لم تنتهِ بعد الموجة الأولى التي اجتاحت قارّات الأرض جميعها، انطلاقاً من الصين، منذ أواخر عام 2019، وأربكت أنماط الحياة الطبيعية كلها ودمرت اقتصادات دول وأسر. وآخر شيء يريده الناس، العودة إلى الإغلاقات والإجراءات الصارمة، وهيمنة أخبار ملايين الإصابات يومياً وعشرات آلاف الوفيات، إذ بلغت الحصيلة العالمية، إلى حينه، وفقاً للتقديرات المتوافرة، 665 مليون إصابة، وأكثر من ستة ملايين وفاة. صحيحٌ أن ثمَّة لقاحات عدة صُنِّعَت، وهي لا شك حَدَّت بشكل مقبول من سرعة انتشار العدوى، والأهم من عدد الوفيات المترتبة عنها، إلا أن أياً من تلك اللقاحات لم يثبت بعد فعالية مطلقة في السيطرة على الفيروس. أضف إلى ذلك، أن الممانعة العامة الواسعة، في كل الدول، لتلقّي جرعات اللقاحات جرّاء شكوك حول سلامتها ونظريات المؤامرة، مهّدت الطريق أمام نشوء متحوّرات جديدة أكثر خطورة قادرة على خداع اللقاحات المتوافرة وإضعاف فعاليتها. وبالتالي، لا يزال سيف وباء كورونا ومتحوراته سيفاً مسلطاً على الرقاب، ولا يبدو أن ثمَّة فكاكاً قريباً منه.
المفارقة المريرة في هذا السياق، أن خطر اجتياح كوفيد - 19 من جديد للعالم قادم من الصين مرّة أخرى. هذا ليس تبنّياً لنظريات عنصرية قائمة فعلاً، ولا هو سقوط في حبائل المعسكر الأميركي الساعي لاحتواء الصين، بل هو الخطر الداهم الشاخص أمام أنظار العالم الذي يقف عاجزاً عن صدّه أو كبح جماحه. تتهم الولايات المتحدة الصين بأنها تسعى لتدمير أسس النظام الدولي وقواعده، كي تحابي أطماعها المتنامية مترافقة مع صعودها الاقتصادي والعسكري والتكنولوجي، فيما تردّ الأخيرة بأن الولايات المتحدة تريد الحفاظ على قواعد وأسس دولية بالية ترسّخ هيمنتها. والحقيقة، أن كلا الطرفين محقّ. هو صراع بينهما على النفوذ والهيمنة على العالم، ولو كان أشلاءً. لكن، ما يجري من انفلاتٍ رهيبٍ حالياً لمعدل الإصابات بفيروس كورونا في الصين، ينبغي أن يقلق البشرية جمعاء، خصوصاً أننا أمام دولة تمثل القوة العظمى الثانية عالمياً، وهي مصنع العالم، ولا يمكن الحجْر عليها أو عزلها.
أظهرت صور لأقمار صناعية حديثة ارتفاع الازدحام بشكل لافت حول المستشفيات ودور الجنائز ومحارق الجثث والقبور في أرجاء الصين، بما في ذلك في العاصمة بكين
خدعت الصين العالم بأسره، أواخر عام 2019، عندما لم تكشف عن حقيقة انتشار فيروس قاتل غامض حينها في مقاطعة ووهان، التي يعتقد أنها مهد كوفيد – 19. تكشف تحقيقاتٌ أجريت أن بكّين كانت تعلم بوجود الفيروس، على الأقل، منذ نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه. ولولا تسرّب المعلومات من دون رضا السلطات، في شهر ديسمبر/ كانون الأول، لما عرف العالم أنَّ ثمَّة خطراً داهماً. ومع ذلك، احتاج الأمر من بقية الدول العالم أشهراً قبل أن تنتبه إلى حجم الكارثة، وتبدأ في الحدِّ من السفر من الصين وإليها، وبعد ذلك فرض الإغلاقات وإجراءات التقييد المشددة. غير أن الأوان وقتها كان قد فات. كانت المشكلة، حينئذ، في انعدام الشفافية صينياً، وهو ما عقد جهود تتبّع أصل الفيروس القاتل. وما زالت المشكلة انعدام الشفافية الصينية أيضاً.
تفجّرت في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2022 احتجاجات شعبية غير معهودة في الصين، رفضاً للقيود الصارمة التي تفرضها بكين منذ ثلاث سنوات على مواطنيها ضمن مساعيها للحد من انتشار العدوى. كان ذلك تحدّياً نادراً لسلطة الحزب الشيوعي الحاكم المطلقة. ويبدو أن الحزب الشيوعي قدّر أن تداعيات الوقوف في وجه تلك الاحتجاجات ستكون أكبر من تخفيف القيود وفقدان السيطرة على الفيروس. وهذا ما كان فعلاً. إذ رفعت بكين القيود الداخلية أواخر العام الماضي، وأتبعت ذلك برفع قيود السفر من الصين وإليها. مباشرةً، تصاعدت وتيرة الإصابات في البلاد، لكن السلطات ما زالت ترفض مشاركة بقية الدول ومنظمة الصحة العالمية بالحقائق. تدّعي الصين أن معدّل الإصابات اليومية لا يصل إلى حاجز العشرة آلاف حالة يومياً، فيما لا يتجاوز عدد الوفيات بضعة أفراد فقط. وحسب السجلات الرسمية الصينية، سُجِّلَت 37 حالة وفاة فقط منذ رفع القيود في السابع من الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، إلا أن ثمَّة معطيات أخرى تؤكد أن بكين تكذب.
تعمل الصين على تطوير لقاح ضد كوفيد يعتمد تقنية لقاح الحمض النووي. حتى ذلك الحين، سيبقى العالم رهينة مخاطر نشوء متحوّرات جديدة أكثر فتكاً
مثلاً، أظهرت صور لأقمار صناعية حديثة ارتفاع الازدحام بشكل لافت حول المستشفيات ودور الجنائز ومحارق الجثث والقبور في أرجاء البلاد كلها، بما في ذلك في العاصمة بكين. وفي مؤتمر صحافي، صرّح مدير الصحة في مقاطعة خنان الوسطى، وهي ثالث أكبر مقاطعة في الصين، أن الإصابات، اعتباراً من 6 يناير/ كانون الثاني الجاري، بين سكان المقاطعة، بفيروس كوفيد – 19، بلغت 89%. وإذا أخذنا في الاعتبار أن عدد سكان تلك المقاطعة 99.4 مليون نسمة، فإن هذا يعني أن هناك 88.5 مليون مصاب حالياً. هذا في مقاطعة واحدة فقط. أما مقاطعة تشينجيانغ الواقعة على الساحل الشرقي، فتؤكّد أنها تشهد حوالى مليون حالة جديدة يومياً. ومع أن معدل الوفيات جرّاء الوباء القاتل في الصين هو الأدنى عالمياً، كما تقول الحكومة، إذ تضعها دون حاجز 5500، منذ أواخر عام 2019 إلى مطلع هذا العام، وهو ما قد يكون نتيجة مترتبة عن القيود الصارمة التي اتبعتها الحكومة، هذا إذا صدّقنا مزاعمها، فإن الخبراء يتوقعون مليون وفاة في البلاد هذا العام وحده. وحسب منظمة الصحة العالمية، فإن متحور أوميكرون هو السائد في الصين حالياً.
أمام هذه التطورات الخطيرة، سارعت دول إلى فرض إجراءات وقيود على المسافرين القادمين من الصين، مثل اشتراط فحوصات سالبة أو الحجْر. مباشرة احتجت الأخيرة واعتبرت ذلك تمييزاً عنصرياً، وفرضت عقوبات على مواطني بعض تلك الدول الراغبين في السفر إليها، مثل كوريا الجنوبية واليابان. وتقول كوريا الجنوبية إن 80% من "الحالات المؤكّدة المستوردة" من الوباء في البلاد قادمة من الصين. ولا يتوقف الاستهتار الصيني بالسلامة الصحية العالمية عند تعمّد إخفاء الحقائق وغياب الشفافية فحسب، بل إنها ما زالت ترفض أن تستورد اللقاحات التي تعتمد تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA)، كفايزر وموديرنا، التي أثبتت أنها أكثر فعالية من لقاحاتها المحلية التي تعتمد التقنية التقليدية (اللقاحات المقتولة)، وذلك بذريعة "الكبرياء الوطني"، رغم اعترافها بأنها تعمل على تطوير لقاح خاص بها يعتمد تقنية لقاح الحمض النووي. حتى ذلك الحين، سيبقى العالم رهينة لمخاطر نشوء متحوّرات جديدة أكثر خطورة وفتكاً، فقط لأن الصين قوة عظمى لا يقدِر أحدٌ على فرض شيء عليها. إنها ذات حكاية المعايير الأميركية المزدوجة وشرعية القوة التي، للمفارقة، تشتكي الصين منهما، في حين أنها تسير مقتفية آثارهما. لعل في ذلك عبرة لبعض من يرجون عالماً أكثر عدلاً تحت سيطرة الصين، فلا عدالة تحت أي إمبريالية، شرقية كانت أو غربية.