هل يعود الانسداد السياسي الليبي؟
تعالت أصوات الخلافات أخيراً بين قوى سياسية فاعلة في المشهد السياسي الليبي مع قرب موعد الانتخابات المقرّرة مسبقاً، الأمر الذي يعطي انطباعاً عاماً بأن هناك من يعمل على إفشالها بطريقة أو أخرى، والعودة بالبلاد إلى مرحلة الانسداد السياسي، عبر هذه الخلافات التي ظهرت أخيراً، وتحمل، في طيّاتها، أبعاداً جدّ خطيرة، وصلت إلى الدعوة والتلميح بإيجاد أجسام سياسية ومؤسّسية موازية في الشرق الليبي، كان مبرّرها الأول "تهميش" حكومة الوحدة الوطنية مدناً ومناطق، غير أن الناظر بعين البصيرة، والمتابع للشأن العام الليبي بشكل دقيق لا يجد صعوبة في معرفة حقيقة هذا الخلاف، باعتبار أن الحكومة جاءت عبر توافقات ومحاورات، وبالتالي فإن أعضاءها ووزراءها مختلفون في التوجّهات والرؤى، ولكلٍّ تحالفاته ومصالحه، ومن ذلك يدرك أن هذا هو السبب الحقيقي في هذا الخلاف، باعتبار النقيض وضده. بمعنى آخر، عندما يرى فريق أن نهجه السياسي قد يسقط أمام نهج "حليفه وخصمه" في آن واحد، لا بد من العمل على إسقاطه هو الآخر أيضاً، وإن وصل الأمر إلى العمل على إفساد التوافق وإنهاء هذا التحالف غير المنضبط، الأمر الذي يقود البلاد إلى حالةٍ من الانسداد السياسي المتكرّر، بحسب ما تقتضيه الحالة والموقف بحكم المصالح. وبالتالي، إن تكوين بيئة سياسية مؤسسية تعمل في إطار مصلحة البلاد وفق هذه "التوافقات" من الصعوبة بمكان، وإن حاول كثيرون العمل على إيجادها طوال الشهور والسنوات الماضية من عمر الأزمة الليبية.
كذلك فإنه لا يمكن المغالبات الفردية والجماعية التي تكون سبباً في حلّ سياسي استرضائي، كما هو الحال الآن في ليبيا، أن تؤسّس لدولةٍ تحتكم إلى معايير سياسية محدّدة تبنى عليها الدولة، وإنْ خالفت مصالحها، باعتبار أن ذلك لن يكون إلا واحداً من أسباب الإقصاء والإبعاد لأحد الطرفين أو كليهما عن المشهد السياسي العام، وبالتالي، العمل في بيئةٍ غير منضبطة سياسياً برلمانياً وشرعياً هو الطريق الوحيد لاستمرارهما، وهذا ما تعمل عليه بعض القوى الفاعلة الآن في ليبيا، لضمان بقائها واستمرارها أولاً، ولتحقيق توافقاتٍ أخرى تكون جزءاً فيها في حالة الانسداد السياسي، وتعطّل الانتخابات المقرّرة في 24 ديسمبر/ كانون الأول المقبل ثانياً.
انعدام المجال السياسي الصحيح والسليم أوجد الاضمحلال في السياسية الليبية، بل وجعلها حكراً على فئةٍ محدودةٍ تتحكّم في جلّ العملية السياسية في البلاد
حاول كثيرون من الموجودين في المشهد السياسي الليبي اليوم، ولا يزالون يحاولون، العمل على انعدام المجال السياسي الطبيعي، من وجود برلمان حقيقي يحمل صبغة شرعية من القاعدة الشعبية، وكذلك حكومة ناشئة عنه، لا يمكن القفز عنها، تستمدّ قوتها من شرعيتها البرلمانية والشعبية الحقيقة، لا تلك المبنية على التفاهمات والتوافقات، التي تسقط أمام أدنى معترك سياسي لا يمكنها تحمّله، فانعدام المجال السياسي الصحيح والسليم هو الذي أوجد هذا الاضمحلال في السياسية الليبية، بل وجعلها حكراً على فئةٍ محدودةٍ تتحكّم في جلّ العملية السياسية في البلاد، وبالتالي أسّس ذلك لنموذج سياسي مغلق منذ 2014 يدور في دواماتٍ سياسيةٍ محدّدة لا يمكنه القفز عنها إلا بتجديد السلطة الشرعية والتنفيذية في البلاد في ديسمبر/ كانون الأول المقبل، وإلا فإن الانسداد السياسي هو الذي يلوح في الأفق، ومن ثم العودة بالبلاد إلى المربع الأول من الاحتراب ومزيد من الاختلاف وحتى الانقسام.
كذلك فإن هذه التغيرات والتباينات التي تحدُث الآن، سواء بين البرلمان والحكومة من جهة، أو بين أعضاء حكومة الوحدة الوطنية من جهة أخرى، أو بين القوى الفاعلة على الأرض بجميع توجهاتها من جهة ثالثة، من شأن ذلك كله إعادة هيكلة الساحة السياسية الليبية، بل وتحديد مآلات الدولة من العبور بها إلى الانتخابات، أو إيجاد انسداد سياسي جديد قد تكون مفاتيح الخروج منه بالصعوبة بمكان، وعبر سيناريوهاتٍ مفتوحةٍ على كل الاحتمالات الداخلية والإقليمية، وحتى الدولية منها.