هل يعرف المصريون بلادهم حقاً؟
تثير النقاشات والحوارات التي تتناول الشأن المصري على وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصا منصة "كلوب هاوس"، أسئلة كثيرة، بشأن مدى معرفتنا، نحن المصريين، ببلادنا، ومدى عمق هذه المعرفة، وصحة الافتراضات والاستنتاجات التي نستند عليها في تقييم الأوضاع. ذلك أن كثيرا من هذه النقاشات، على الرغم من حيويتها، تكشف عن مستوى مخيفٍ من الجهل بمسائل وقضايا عديدة تمسّ مختلف جوانب الحياة في مصر، سواء السياسية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو الثقافية أو التاريخية. بل يمكن القول إن جزءا رئيسيا من الأزمات التي تمر بها مصر يعود، في جزء كبير منه، إلى هذا الجهل، وعدم وجود معرفة حقيقية بأمور عديدة تخص هذه الأزمات. ولا يعود الأمر إلى أن الأجيال الشابة ليس لديها رصيدٌ كافٍ من التعليم، بل على العكس، فكثيرون ممن استمعت إليهم، على مدار الأيام الماضية، ينتمون للشرائح العليا من الطبقة الوسطى، ومن المفترض أن لديهم مستوى جيدا من التعليم الحكومي والخاص، بل إن بعضهم قد نالاً قسطاً من التعليم في الخارج، خصوصا في أوروبا وأميركا.
على سبيل المثال، حضرتُ أكثر من لقاء على منصة "كلوب هاوس"، يتم فيها تناول جماعة الإخوان المسلمين، خصوصا في مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير (2011). وقد سمعت فيها جميعاً كلاماً عجيباً عن الجماعة بشكلٍ يعكس، ليس فقط جهلاً بها وبتاريخها وبتنظيمها وبطريقة عملها، وإنما أيضا يعكس جهلاً مخيفاً بمعلوماتٍ أساسيةٍ حول تاريخ مصر المعاصر، خصوصا منذ بدايات القرن الماضي والسياق السياسي والاجتماعي والفكري الذي نشأت فيه هذه الجماعة. ويتجاوز الأمر هنا مسألة الخلاف الفكري والسياسي والأيديولوجي مع الجماعة، وهي مسألة أصبحت شديدة الانقسام والاستقطاب في مصر وداخلها، ليصل إلى حالةٍ من العُصاب الجماعي الذي يريد "نسف أفراد الجماعة من الوجود"، على نحو ما قال أحد المعلّقين في أحد النقاشات على "كلوب هاوس" قبل أيام.
لا نعلم نحن المصريون يئاً عن مجتمعنا وعن فاعليه السياسيين، وذلك بعيداً عن المواقف الفكرية والأيديولوجية
ولعل هذا ما دعاني كي أفتح نقاشاً هادئاً عن الجماعة منذ نشأتها عام 1928 وحتى قيام ثورة يناير، بحكم دراستي لها على مدار العقد ونصف العقد الماضيين. وقد استمر اللقاء حوالي ست ساعات متصلة من الحديث والرد على أسئلة المتداخلين الذين وصل عددهم، في بعض الأحيان، إلى نحو 620 شخصا من مختلف التوجهات الفكرية والأيديولوجية. وبقدر ما كانت الجلسة ممتعةً إلى درجة أننا لم نشعر بالوقت الذي مرّ سريعاً، بقدر ما تأكّد لي أننا، نحن المصريين، لا نعلم شيئاً عن مجتمعنا وعن فاعليه السياسيين، وذلك بعيداً عن المواقف الفكرية والأيديولوجية.
مثال آخر على ذلك، شاركت في أحد النقاشات عن مياه النيل وسد النهضة وتأثيره على تدفق المياه إلى دولتي المصب، مصر والسودان. وقد أخافني حجم الجهل وغياب المعلومات الصحيحة لدى كثيرين عن مياه النيل، ودول حوضه، ومصادره، وحجم المياه التي تصل إلى مصر منه سنوياً. وبالقطع، هناك عدم معرفة أو دراية بسد النهضة وتداعياته الكارثية على مصر على المدى الطويل. ولولا أنه كان في الحوار شاب سوداني متابع جيد للموضوع، ومتمكّن من معلومات كثيرة عن سد النهضة وتداعياته، لكانت كارثة.
الانقسام في مصر مجرّد عرَض لمرض الجهل الذي يضرب أركان المجتمع
وفي موضوع ثالث كان يناقش "اليسار المصري"، شعرت بقدر كبير من السطحية في تناول الموضوع لدى بعض المتحدثين، خصوصا من الشباب الذين لم يقرأوا عن الحركة اليسارية المصرية، ولا يعرفون متى تم تأسيس الحزب الشيوعي المصري، ولا ما حدث له، سواء من حزب الوفد الذي حظره في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، ولا علاقته بالحركة الوطنية المصرية، أو بنظام ما بعد يوليو 1952، على الرغم من أن هذه مسائل تكاد تكون جزءا أصيلا من تاريخ مصر المعاصر.
تكشف هذه الأمثلة الثلاثة، وغيرها، أن الأزمة المصرية لا تكمن في الانقسام والاستقطاب السياسي، وما ترتب عليه من احتقان وتوتر بين مختلف القوى والفصائل السياسية، وإنما في الجهل، والتجهيل الذي يبدو متعمّداً، الذي تعيشه قطاعاتٌ واسعةٌ من الشعب المصري. بل الأكثر من ذلك، يبدو أن هذا الانقسام ما هو إلا مجرّد عرَض لمرض الجهل الذي يضرب أركان المجتمع. ولو كان المرء سيئ النية لقال إن ثمة أطرافاً في الدولة المصرية تستفيد من هذا الجهل وتوظفه لصالح بقاء هيمنتها على الشعب، من خلال سرديتها وروايتها عن المجتمع وقواها السياسية، وضمان عدم وجود أية سردية مناقضة لهذه السردية الرسمية. وهنا يحضرني القول المأثور لعبد الرحمن الكواكبي "أضرُّ شيءٍ على الإنسان هو الجهل، وأضرُّ آثار الجهل هو الخوف".