هل يصلح العطّار ما أفسده الدهر؟

02 نوفمبر 2022

رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني في بغداد (27/10/2022/ الأناضول)

+ الخط -

يقول رئيس حكومة العراق المنصرف، مصطفى الكاظمي، إنه ترك في عهدة خلفه محمد شياع السوداني 85 ملياراً من الدولارات و134 طناً من الذهب. وفي تقدير خبراء، ستزيد هذه الثروة بمقدار 120 ملياراً على الأقل من واردات النفط في كل سنة من سنوات ولاية السوداني الأربع، فإذا ما أضيفت اليها عائدات المصادر الأخرى، وما يمكن استعادته من المال العام المنهوب في سنوات الخراب العشرين، والذي تعجز الأرقام عن تقديره، تكون أمام العراقيين ثروة خرافية تكفي لتحويل بلادهم إلى واحدةٍ من جنان الله على الأرض، ربما تقصر عقولنا عن تخيلها، فهل بإمكان السوداني أن يفعلها، وهو القادم إلينا هذه المرّة رافعاً شعار "نحو حكومة خدمة وطنية" الساحر، هل في قدرته أن ينقلب على ذاته، وأن يجعل من نفسه رجل التغيير المطلوب؟

لا نُطلق هنا السؤال على عواهنه، ولا نبغي أن نبخّس الرجل أشياءه، إنما جئنا ننقب ونستوثق بعيداً عن الرأي الذي يقول إن السوداني جرّب سابقاً في أكثر من موقع وزاري وفشل، دعونا نقرأ ما هو مستور وما هو معلن، لعلنا نصل إلى إجابةٍ واضحة ومقنعة.

في سيرته، ما يجعلنا نفترض أنه قد اكتسب خبرة عريضة من تجربة العمل في أكثر من موقع ومكان، فقد انخرط في صفوف حزب الدعوة، واقترب من زعيم الحزب نوري المالكي، وتماهى مع طروحاته، وقد كافأه المالكي بتقليده وزارة حقوق الإنسان في ولايته الثانية التي شهدت انتهاكاتٍ فظّة لحقوق الإنسان على أكثر من صعيد، تنقّل بعدها بين وزارات العمل والصناعة والتجارة في حكومة حيدر العبادي. وفي انتخابات أكتوبر 2021 تخلّى عن حزب الدعوة، مؤسّساً حزب "تيار الفراتين"، ومظهراً نوعاً من الاستقلالية المصطنعة عن حزبه السابق، وقيل إن ذلك تم بتوجيه من المالكي نفسه الذي رشّحه لرئاسة الحكومة، في صفقة مريبة جمعت ممثلين عن المليشيات ومافيات الفساد والأحزاب التي تدين بالولاء لإيران، كما ضمّت وزراء ومسؤولين سابقين متورّطين في ملفات فساد موثقة من جهات قضائية، فضلاً عن أنها لم تبتعد عن صيغة المحاصصة الطائفية التي لازمت الحكومات السابقة، بل ازدادت التصاقاً بها.

السوداني ليس سوى "عطّار" لا يعرف أكثر من أن يصنع خلطة ملفتة للأنظار، لكنها لا تلبث أن تتفتت بفعل الزمن

ولا يملك السوداني في حكومته هذه التي جاءت بعد مخاض طويل امتد أكثر من عام ما يدعم ما قاله عن سعيه إلى تقديم "خدمة وطنية" للعراقيين، وليس ثمّة ما يزكّيه في التصدّي لمعالجة الملفات العالقة الموروثة من تجربة السنوات العشرين المرّة، بل هناك أكثر من دليل على أن أداء حكومته لن يكون أفضل من أداء الحكومات التي سبقته، وقد يكون أكثر شبهة وسوءاً، إذ إن المليشيات التي حضرت رسمياً في الحكومة، مثل مليشيا جند الإمام التي مثلها زعيمها وزير العمل أحمد الأسدي ومليشيا العصائب التي مثّلها وزير التعليم العالي نعيم العبودي كانت قد أعلنت صراحة، وفي أكثر من مرّة، أنها لن تترك سلاحها، ولن تقبل بدمجها في القوات النظامية، وهذا يعني أن تجريد المليشيات من أسلحتها ووضع السلاح في يد الدولة الذي كان أحد أهداف ثورة تشرين، ليس له مكان في أجندة حكومة السوداني، وقل الشيء نفسه عن الأهداف الوطنية الأخرى.

كنا نريد أن يكون ما بعد ثورة تشرين مختلفاً عما قبلها، لكن ذلك لم يحدُث ولن يحدُث، لأن إيران لا تريد ذلك، وهي التي ترسم سياسات العراق وتوجّهاته، فيما يمحضها سياسيو بلادنا الطاعة والولاء سرّاً وجهراً، هذا يعني أن العهد الذي بدأ منذ الاحتلال باقٍ ويمتد، وأننا مقبلون على مرحلةٍ لا تقلّ خطورة عن سابقاتها، وربما أخطر بكثير، إذ ستستأسد المليشيات، وستتقوّى سلطة المافيات، وتزداد صفقات نهب المال العام، وسيخسر العراق والعراقيون ما هم جديرون بالحصول عليه من حقوقٍ ضمنتها لهم كل شرائع الأرض والسماء، وسوف ينتظرون أعواماً أخرى، بل ربما عقوداً أخرى، قبل أن يتنفسّوا الصعداء. أما الحديث عن "خدمة وطنية" تقدّمها حكومة السوداني فليست سوى كذبة كبيرة تنضم إلى أكاذيب كثيرة، قالها "سياسيون" آخرون جمعهم الأميركيون من الأزقة الخلفية لدول الغرب والجوار، ونصّبوهم حكاماً على هذي البلاد.

والمختصر المفيد لما نريد كتابته أطلقه "رجل شارع" في تغريدة على "تويتر" بأن السوداني ليس سوى "عطّار" لا يعرف أكثر من أن يصنع خلطة ملفتة للأنظار، لكنها لا تلبث أن تتفتت بفعل الزمن، ومهما بلغ من "شطارته"، فلن يقدّم لنا أي مكسب، لسبب بسيط أن "العطّار" لا يمكنه أن يصلح ما أفسده الدهر.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"