هل سيدفع الأردن الثمن؟
من الواضح أنّ هنالك تصعيداً وتصاعداً كبيراً في التوتر بين عمّان وتل أبيب، بل لا نبالغ، أو نبتعد عن الصواب، إن وصفناهما بالحرب الدبلوماسية الشرسة التي يخوضها الأردن في مواجهة إسرائيل على جبهات عدة، الأمم المتحدة، جامعة الدول العربية، الاتصالات والتأثير على مواقع الدول الأوروبية عموماً، وفي الضغوط المتبادلة بين الطرفين على أروقة القرار الأميركي.
هذا الموقف الأردني، وإنْ يحظى بتأييد شعبي جارف، وله في أوساط السياسيين والنخب المختلفة رصيد كبير، ويحظى بارتياح ملحوظ لدى الشارعين الأردني والفلسطيني، يثير قلق اتّجاه من السياسيين الأردنيين المحافظين، بدأ يهمس، أخيرا، بهواجسه من خطورة التصعيد والتحدّي الأردني لإسرائيل، ويرون أنّ على الأردن الحذر والانتباه من الانزلاق إلى مواجهةٍ أكبر من إمكاناته مع إسرائيل والإدارة الأميركية وعدة دول عربية تحمل مواقف مبطّنة (على خلاف ما تعلنه). وتستحضر هذه "النخبة" العزلة الأردنية بعد حرب الخليج 1991، عندما وجد الأردن نفسه منبوذاً من دول عربية، ودفع ثمن هزيمة صدّام حسين على أكثر من صعيد. بالتالي، من الخطأ، وفقاً لهذا الاتجاه، أن يضع الأردن أوراقه في سلّة الحرب على غزّة، ويكون خارج إطار حسابات "المنتصرين" (على أساس أن الانتصار محسوم للطرف الآخر)، فيدفع أثماناً أخرى عديدة!
عزّز من مخاوف هذه النخبة التصعيد في التصريحات المتبادلة، بداية من خطاب الملك عبد الله الثاني في القاهرة للسلام، ومقابلتي الملكة رانيا مع "سي أن أن"، وبخاصة الحرب الإعلامية - الدبلوماسية المعلنة، التي يقودها وزير الخارجية أيمن الصفدي في مواجهة الحرب الإسرائيلية، والردود التي أصبحت إسرائيل تعلنها ضد الأردن، وجديدها أخيرا ما قاله رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بنيت ردّاَ على الصفدي بخصوص عدم توقيع عمّان اتفاقية الماء والطاقة مع إسرائيل. ويتخوّف التيار المحافظ من أنّ يتمادى الصفدي، الذي أصبح نجماً جماهيرياً في الأوساط الشعبية، في المواجهة مع الإسرائيليين، بالرغم من إقرارهم بأنّه لا يمكن أن يفعل ذلك إذا لم يكن هنالك "ضوءٌ أخضر" من الملك.
سألتُ مسؤولاً رفيعاً في مراكز القرار عن رأيه بهذه الهواجس والخوف من الأثمان المفترضة؛ وعما إذا كان الأردن بالفعل يخوض مغامرة سياسية كبيرة، ويجازف كثيراً بالتورّط في صراع مع إسرائيل، فاستبعد، بدايةً، التشبيه بما حدث في حرب 1991، لأنّ الظروف والشروط والسياقات مختلفة ومتباعدة، ولأنّ الحكومة اليمينية الإسرائيلية اليوم هي التي تواجه تصاعداً في الغضب العالمي، والمواقف الدولية منقسمة، كما أنّ مستقبل نتنياهو نفسه بات شبه محسوم، ولا يوجد موقف دولي- إقليمي شبيه لما حدث في تلك المرحلة.
الأهم من ذلك، وفقاً لمحدّثي، أنّ الموقف الأردن لا ينهض على معايير عاطفيةٍ أو حساباتٍ آنية، بل هو مرتبط بمؤشّرات خطيرة ومقلقة لأجندة إسرائيل تجاه الأردن والهيمنة المطلقة للصهيونية الدينية هناك، التي ترى في "الترانسفير" حلاً وحيداً للمأزق الاستراتيجي الإسرائيلي مع المعضلة السكّانية الفلسطينية، ولتنفيذ أوهامها الدينية المتعلقة بالسيطرة على كامل أرض فلسطين، فالأردن يتعامل مع معطياتٍ جديدةٍ خطيرة وتهديد بدأ يأخذ طابعاً جدّياً واستراتيجياً لأمنه القومي، وحتى للسلم الأهلي الداخلي، في ظل فراغ استراتيجي عربي سافر.
إذاً، أيّاً كانت الخلافات السياسية الأردنية مع حركة حماس، وأياً كانت انعكاساتها الداخلية في العلاقة مع المعارضة الإسلامية، فإنّ هنالك خطراً وتهديداً أكبر، اليوم، يتمثّلان في المشروع الإسرائيلي، الذي وإن كانت عملياته تجري في غزّة، فإنّ عينه على الضفة الغربية، كما كانت الحال في حرب 1967، عندما كانت إسرائيل تنظر إلى احتلال القدس والضفة الغربية بوصفهما الجائزة الكبرى من الحرب، لأنّهما في صلب الوعود التوراتية والاعتبارات القومية والدينية اليهودية، وبالتالي، عاجلاً أم آجلاً، مع انهيار معسكر السلام وتراجع نفوذ العلمانيين بصورة حادّة خلال العقود الأخيرة، التفكير في الثمن الذي سيدفعه الأردن، من المفترض أن يتجاوز فقط المخاوف التقليدية، وينظر إلى الإطار العام للمشهد. والسؤال هو: أيّ ثمنٍ أكبر سندفعه؛ هل هو بالتوافق مع الأجندة الإسرائيلية اليمينية، أم الوقوف في وجه هذه الأهداف التي ترى الأردن فقط بوصفه وطناً بديلاً للفلسطينيين؟