هل ستكون دونباس واترلو الثانية؟
كشفت بعثة أثرية بقيادة باحثين بريطانيين عن عظام بشرية جديدة في موقع معركة واترلو في بلجيكا، وهو اكتشاف وصف بأنه "نادر للغاية وبعد أكثر من قرنين من وقوع المعركة". ويقدّر المؤرخون أنّ أكثر من 20 ألف جندي قُتلوا في واترلو، على بعد 20 كيلومتراً جنوب بروكسل، في يوم 18 يونيو/ حزيران 1815، عندما نجحت القوات المتحالفة، التي كانت في أكثريتها من بريطانيا وهولندا تحت سلطة دوق ولينغتون، في صدّ كتائب نابليون.
كانت معركة واترلو من أسوأ المواجهات المسلحة في التاريخ، وقد وضعت حدًا لأحلام بونابرت ببناء إمبراطورية عظيمة، وتسبّبت بسقوط عشرات آلاف القتلى والجرحى من الجيش الفرنسي، فهل ستنتهي معركة السيطرة على إقليم دونباس كما انتهت معركة واترلو؟ ويفشل الرئيس الروسي بوتين في تحقيق إقامة إمبراطوريته، ويسقط آلاف من الجنود الروس أمام تحالف دولي بقيادة أميركية؟
قد تكون من أبرز أهداف الحرب الروسية في أوكرانيا احتلال هذا الإقليم الذي تتمركز فيه مجموعة من الانفصاليين المتحدثين بالروسية والموالين لروسيا، التي اعتبرت قيادتها أنّ من واجبها حمايتهم لأنهم من أصول روسية. وقد غيّر الجيش الروسي في خطته التي أعلنها منذ بداية الحرب في 25 فبراير/ شباط 2022، وهي عمله على "تطهير" البلاد من الذين اعتبرهم انفصاليين، وقوميين، ونازيين، يشكلون خطراً على روسيا، إلى احتلال إقليم دونباس وفصله عن الأراضي الأوكرانية. لكنّ المقاومة التي أبداها الجيش الأوكراني عرقلت تقدّم الجيش الروسي نحو العاصمة كييف، وفاجأت الروسي والغربي. لهذا سارعت الدول الغربية إلى التصعيد في وتيرة دعمها كييف بالمطلوب من الأسلحة والعتاد العسكري، بما يتناسب مع تطورات المعركة ميدانياً.
كما في واترلو كذلك في دونباس، هناك تحالف دولي في وجه بوتين، إذ لم تعد معركة شرقي أوكرانيا محصورة بين الجيشين الروسي والأوكراني، بل تقاطعت المصالح عند داعمي كييف
كما في واترلو كذلك في دونباس، هناك تحالف دولي في وجه بوتين، إذ لم تعد معركة شرقي أوكرانيا محصورة بين الجيشين الروسي والأوكراني، بل تقاطعت المصالح عند داعمي كييف، إذ وضع الأميركي سياسة الاحتواء لروسيا، من خلال جرّها إلى حرب استنزاف طويلة في شرق أوروبا، لجعلها عاجزةً عن منافستها في المستقبل. كذلك الأمر، سعى الأوروبي، عبر كييف لإبعاد الخطر المتمثل في قوة روسيا العسكرية وطموحات زعيمها بوتين ببناء إمبراطورية، ظنّ الأوروبي أن الزمن طوى عليها صفحاته بعد انهيار الاتحاد السوفييتي.
لا يتوقف الموضوع على قهر روسيا عسكرياً، بل أيضاً شلّ قدرتها على تحقيق النمو الاقتصادي. لهذا سارع الغربي إلى فرض عقوباته وإخراج روسيا من فلك النظام العالمي. كما أدرك الأوروبي، تحديداً، خطورة الاعتماد على الغاز الطبيعي الروسي، الذي شكل أكثر من 40% من الكمية المستوردة إلى دول الاتحاد الأوروبي، لهذا استغل العقوبات التي فرضها على طاقة روسيا، وبدأ بالسعي جدياً في إيجاد طاقة بديلة.
التحليلات قائمة، إلّا أنّ للميدان كلمة الفصل، حيث تعارضت التقارير الاستخباراتية بشأن الحرب في هذا الاقليم، بين الروسية التي اعترفت على لسان وزير الدفاع، سيرغي شويغو، بسقوط إقليم دونباس بيد الجيش الروسي، وتقارير غربية نفت ذلك، وأكّدت وكالة الاستخبارات الأميركية أنّ الإقليم لم يسقط رغم ضراوة المعركة، وعلى وقع الحشد العسكري الذي يتحضّر له الروسي، من خلال إعلان التعبئة العامة في البلاد تحضيراً لحرب طويلة، بعدما كان بوتين قد وصف هجومه على أوكرانيا بأنّه "عملية عسكرية خاصة".
الروسي لم تعد خطته التوقف عند احتلال إقليم دونباس، بل ستستمر
بالعودة إلى الأرقام، خسر الجيش الفرنسي بقيادة بونابرت حوالي عشرين ألفاً من جنوده بين قتيل وجريح ومفقود في تلك المعركة. لذلك عاد أدراجه متقهقراً، وانتهى به الأمر منفياً من البريطانيين إلى جزيرة القديسة هيلانة، وهي مستعمرة بريطانية، حيث أمضى سنواته الست الأخيرة من حياته.
قال مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية وليام بيرنز، في 20 يوليو/ تموز الجاري، إنّ "الولايات المتحدة تقدّر حجم الخسائر الروسية في أوكرانيا بنحو 15 ألف قتيل، وربما 45 ألف جريح"، مضيفاً أنّ كييف أيضاً تكبدت خسائر كبيرة". ويتقاطع تقدير بيرنز مع تصريح رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية (أم آي 6) ريتشارد مور، في 21 يوليو/ تموز الجاري، بأنّ حصيلة 15 ألفاً في صفوف القوات الروسية هي "على الأرجح تقدير متحفظ، وضربة شديدة حقيقية" للرئيس بوتين الذي يأمل تحقيق انتصار سريع ضد كييف من دون تكبد خسائر فادحة إلى هذا الحد.
طموح بوتين أن يعيد مجد القياصرة الروس قد يحطمه الصمود الأوكراني
قد لا يصل الروسي في حرب الاستيلاء على إقليم دونباس إلى أعداد قتلى بونابرت في معركة واترلو، لكنّ الأكيد أنّ المعركة مستمرة والأعداد سترتفع، لأنّ الروسي لم تعد خطته التوقف عند احتلال الإقليم، بل ستستمر، بحسب وزير الخارجية الروسي لافروف.
الطموح الروسي بإقامة إمبراطورية وبأن يعيد بوتين مجد القياصرة الروس، قد يحطمه الصمود الأوكراني المدعوم غربياً. إذ يذكر التاريخ القريب حروبًا خاضتها قوى كانت عظمى في وقت ما، وبسبب هذه الحروب خسرت تلك الدول مكانتها الكبرى في المشهد الدولي. ويعتقد الباحث والخبير العسكري الأميركي دان نيغريا، من مركز سكوكروفت للاستراتيجيات والأمن التابع للمجلس الأطلسي، في تقرير نشرته مجلة ناشونال إنتريست، أنّ "غزو روسيا أوكرانيا يعيد إلى الأذهان الحملة ضد السويس في عام 1956، وكيف سقط الغزاة أمام صمود مقاومة اللجان الشعبية".
أخيراً، يعتقد نيغريا أنّ الاتحاد الروسي، في نهاية المطاف، نتيجة سقوط الأعداد الهائلة من القتلى للجنود الروس في إقليم دونباس، قد يتفكّك، مع التصعيد بمطالبة الجمهوريات المكوّنة للاتحاد بالاستقلال، تماماً كسيناريو تفكّك الاتحاد السوفييتي؛ عندها سينهزم بوتين أمام التحالف الغربي ويكون مصيره كما بونابرت منفياً أو معزولاً.