هل تنعطف إسبانيا نحو اليمين المتطرّف؟
تشهد الساحة السياسية الإسبانية نقاشا واسعا بعد قرار رئيس الحكومة بيدرو سانشيز حل البرلمان وتنظيم انتخابات تشريعية مبكّرة في 23 يوليو/ تموز المقبل، وذلك بعد التقدّم الذي حقّقه الحزب الشعبي اليميني في الانتخابات البلدية والجهوية التي جرت في 28 مايو/ أيار الماضي. يأخذ هذا التقدّم أبعادا أخرى مع الصعود اللافت الذي حقّقه حزب فوكس اليميني المتطرّف في هذه الانتخابات، الأمر الذي يثير مخاوف الطبقة السياسية التقليدية التي ترى في هذا الصعود إخلالا بتوازنات سياسية واجتماعية قائمة منذ نهاية حكم الجنرال فرانكو وتحوّل إسبانيا نحو الديمقراطية في نهاية السبعينيات. ويمكن القول إن دورة سياسية توشك على الانتهاء في إسبانيا، فهناك تحوّلات مجتمعية عميقة عجزت النخب الإسبانية عن التكيف معها والتعاطي مع ما تطرحه من مشكلات وقضايا على صعيد السياسة والاجتماع والذاكرة والعلاقة مع المحيط الإقليمي، وبالأخص مع المغرب. ويرى قطاعٌ عريضٌ من الإسبان أنه لم يعد لدى هذه النخب ما تقدّمه خطابا وممارسة، لا فرق في ذلك بين أحزاب اليمين واليسار.
فاقمت نتائج الانتخابات البلدية والجهوية حالةَ عدم اليقين هاته، فاليمين المحافظ، ممثلا في الحزب الشعبي، رغم تقدّمه، يبقى بحاجة لدعم حزب ''فوكس'' اليميني المتطرّف من أجل تشكيل حكومات الأقاليم، ما يمثل كلفة سياسية بالنسبة له قد لا يتحمّلها على المدى البعيد. غير أن احتمال تحالفه مع ''فوكس'' يبقى مستبعَدا بسبب مخاوفه من أن يتحوّل الأخير إلى عبء سياسي ثقيل داخل معسكر اليمين.
نجح اليمين المتطرّف في إسبانيا في توظيف الأزمة الاقتصادية التي فاقمتها الجائحة وارتفاعُ معدل التضخّم وتداعياتُ الحرب الروسية الأوكرانية وتدهورُ الوضع المعيشي لبعض شرائح الطبقة الوسطى. وساهم هذا اليمين، من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، في تغذية التقاطب المجتمعي والسياسي. كما غدا خطابُه في قلب النقاش العمومي، ما فتح المجال أمامه لتوسيع قاعدته الاجتماعية، خصوصا أن أوساط البورجوازية الإسبانية التقليدية التي كانت قد قبلت على مضض الحراكَ الاجتماعي الذي رافق عملية التحوّل نحو الديمقراطية وحدَّ من نفوذها الاجتماعي والطبقي.
في السياق ذاته، يرى محلّلون إسبان أن قرار بيدرو سانشيز تنظيم انتخابات تشريعية مبكّرة يعود بالأساس إلى مخاوفه من أن الانتظار حتى 10 ديسمبر/ كانون الأول المقبل قد يكون في صالح اليمين، بطيْفيْه المحافظ والشعبي، الذي سيستثمر فوزه في الانتخابات البلدية والجهوية الأخيرة في إعادة ترتيب أولوياته ووضع استراتيجية محكمة تمكّنه من الفوز بأغلبية مريحة. كما يمكن تفسيرُ قراره أيضا برغبته في تجاوزِ الانقسام الحاصل، سواء داخل حزبه الاشتراكي العمّالي أو داخل الائتلاف الحكومي، والتوافقِ على الأولويات التي تحكم سياسة الحكومة في المجالين الاقتصادي والاجتماعي.
من ناحية أخرى، يتصادف موعد الانتخابات التشريعية المقبلة مع تسلُّم إسبانيا الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي في مطلع الشهر ذاته، ما يعطي لهذه الانتخابات أهمية كبرى تتقاطع عندها رهانات الداخل والإقليم، فصعود اليمين المتطرّف لا يشكّل فقط إرباكا للطبقة السياسية، بقدر ما يعتبر، كذلك، توسيعا لهامش الحركة أمام تشكيلات هذا اليمين في إيطاليا وهنغاريا والنمسا وبولندا وفرنسا والسويد وغيرها، بما يحيل إليه ذلك من تزايد مشاعر عدم اليقين التي عادة ما يرافقها التوسُّلُ بالخطابات القومية والشعبوية المتطرّفة التي تتغذّى على كراهية المهاجرين والأجانب.
يصعب التكهن بما ستسفر عنه الانتخابات التشريعية في إسبانيا، في غياب رؤية واضحة لدى معظم مكوّنات الطبقة السياسية، فاليمين المحافظ لا يريد حرق أوراقه كلها والمجازفةَ بالتحالف مع اليمين المتطرّف، وإن يتيح ذلك له إطاحةَ الحزب الاشتراكي العمّالي، لما لذلك من تداعيات على المشهد السياسي الإسباني برمّته، في حين أن خوضه الانتخابات من دون دعم اليمين المتطرّف قد يحرمه من أصواته، بما يعنيه ذلك من تعبيد الطريق أمام اليسار للظفر بولاية حكومية جديدة.