هل تقيّد تدابير "العدل الدولية" المؤقتة إسرائيل؟
بالرغم من عدم إصدارها قراراً بوقف فوري لإطلاق النار في غزّة، فإن التدابير المؤقتة التي أمرت بها محكمة العدل الدولية إسرائيل يفترض أن تقيّد عمليا العمليات العسكرية في غزّة، ومنها القصف العشوائي للسكان وتدمير المنازل والبنى التحتية. هذا إذا امتثلت إسرائيل لأوامر المحكمة، وامتنعت عن ممارسة كل ما من شأنه أن ينضوي تحت بنود اتفاقية منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، وأهمها التوقف عن قطع المياه والكهرباء والغذاء والوقود والرعاية الصحية في زمن الحرب، وكل ما يمكن اعتباره من أساسيات الحياة التي لا غنى عنها لأي جماعة عرقية أو قومية أو دينية... إلخ. ولا سيما بوضع هذا التنفيذ قيد المراقبة، وتقديم تقريرٍ تقدم فيها الخطوات الملموسة المانعة للإبادة الجماعية، وهو أمر إن لم تلتزم إسرائيل بتنفيذه (وهي لم تلتزم بعد مرور أيام على قرار المحكمة)، ستضاف أدلةً دامغة تزيد من شبهة تورّطها في أعمال الإبادة، ما سيلقي بظلاله ليس فقط على إثبات تهمة انتهاكها اتفاقية "منع الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، بل ستضع الدول التي تمدّها بالسلاح والمال والعتاد والدعم الدبلوماسي في وضع صعب للغاية، خصوصا الموقعة على الاتفاقية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وكندا وأستراليا.
رفض محكمة العدل الدولية طلب إسرائيل عدم قبول اختصاصها في الدعوى المقدّمة من جنوب أفريقيا وتقديم اقتباسات أممية وتقارير إحصائية عديدة لحجم الكارثة المروّعة في غزّة فضلا عن عرض مجموعة من التصريحات لقادة الاحتلال تثبت النيّة في ارتكاب إبادة جماعية بحقّ الشعب الفلسطيني في غزّة، أوردت فيها اقتباسات موثقة بأدلة دامغة قدّمتها جنوب أفريقيا في معرض مرافعتها التاريخية في 11 من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، وضمنتها في ملف الدعوى المكون من 80 صفحة، كي تدعم مبرّرات إصدار تدابير احترازية لشبهة قوية بارتكاب إسرائيل إبادة جماعية في غزّة، هو في مجموعه لحظة فارقة غير مسبوقة في صالح الشعب الفلسطيني أولا، وفي المساءلة القضائية الأولى من نوعها عن الانتهاكات التي ارتكبتها ولا تزال ترتكبها إسرائيل بحقّ هذا الشعب. ولعلها سابقة قانونية أساس يُبنى عليها لمنح الشعب الفلسطيني جميع حقوقه الوطنية الأساسية في فلسطين التاريخية، ويعزّز الرواية الفلسطينية أمام أكاذيب الرواية الإسرائيلية، ويمكن أن يشكّل بداية النهاية للغطرسة الإسرائيلية.
لحظة فارقة غير مسبوقة في صالح الشعب الفلسطيني، وفي المساءلة القضائية الأولى من نوعها عن الانتهاكات التي ارتكبتها ولا تزال ترتكبها إسرائيل بحقّ هذا الشعب
للتدابير الاحترازية التي أمرت بها محكمة العدل الدولية إسرائيل صفة الإلزام ومتابعة تنفيذها، وإن لم ترقَ إلى تطلعات أهل غزّة الذين أملوا في أن تتضمّن وقفا فوريا لإطلاق النار. وهي تطلعاتٌ مفهومة بسبب الرغبة في التخلّص من شبح الموت والدمار والنزوح، وتداعيات ذلك كله على القدرة على العيش، بل والتقاط الأنفاس وتشريد العائلات وتشتيتها، والتهديد الدائم بإبادة عائلات بأكملها وخروجها من السجل المدني كما حدث كثيرا، وما زال يحدث، بسبب القصف التدميري المتواصل على مدار الساعة منذ أكثر من 115 يوما من الحرب.
لم نتوقع أن تمتثل إسرائيل لهذه التدابير الاحترازية لأنها ستفعل ما اعتادت عليه، وإنْ كانت ربما ستحاول الالتفاف عليها بتنفيذ بعضها نظرا إلى تأكيد المحكمة على صفة "إلحاح" واستعجال تنفيذ هذه التدابير ربما بديلا عن وقف فوري لإطلاق النار من إسرائيل. إذ يبدو أن "العدل الدولية" تخوّفت ربما من تملّص إسرائيل من تنفيذ وقف إطلاق النار، نظرا إلى عدم مثول الطرف الآخر (حماس) أمام المحكمة، بوصفها ليست طرفا في الاتفاقية فقط، بل ليست دولة نظامية أصلا. وهي بذلك تجنّبت منح إسرائيل ذرائع في رفض وقف إطلاق النار أو التملص منه تدبيراً احترازياً مؤقتاً لأنها ستتذرّع بحركة حماس، وإن كانت "حماس" قد أعلنت رسميا على لسان عضو مكتبها السياسي أسامة حمدان، قبل انعقاد المحكمة بيوم، أنها ستلتزم بوقف إطلاق النار إن صدر عن محكمة العدل الدولية.
اعتبارات عديدة دفعت المحكمة لعدم الأخذ بالتدبير الاحترازي بوقف العمليات العسكرية ربما أيضا حفاظا على هيبتها القضائية الذي يتوقّع أن تكسرها أو ألا تعبأ بها إسرائيل على عادتها بسبب تاريخ من عدم الامتثال للقرارات الدولية، والخروج على القوانين الدولية مستندة لدعم حلفائها في مجلس الأمن (الفيتو)، وفي مقدّمتهم الولايات المتحدة.
للتدابير الاحترازية التي أمرت بها محكمة العدل الدولية إسرائيل صفة الإلزام ومتابعة تنفيذها، وإن لم ترقَ إلى تطلعات أهل غزّة الذين أملوا في أن تتضمّن وقفا فوريا لإطلاق النار
تصرّفت المحكمة بذكاء وقدّمت للفلسطينيين فرصة حقيقية للبناء عليها في المستقبل في حال استمرت إسرائيل بممارسة انتهاكاتها لحقوقهم الوطنية والإنسانية وفتحت بابا للأمل يتطلّع إليه الشعب الفلسطيني للعدالة منذ 76 عاما، وإنْ أوجدت التدابير الاحترازية التي أمرت "العدل الدولية" إسرائيل بتنفيذها لمنع الإبادة الجماعية أرضية لوقف الحرب، في حال امتثلت لها إسرائيل، أو لم تمتثل، لأنها ستدفع دولاً عديدة داعمة لإسرائيل، موقّعة على اتفاقية "منع الإبادة الجماعية ومعاقبتها"، إلى كبح جماح دعمها كي لا تطاولها الإدانة غير المباشرة، فتدفع بعضها أو كلها إلى إيقاف مدّها بالسلاح والمال والعتاد والدعم الدبلوماسي والسياسي، وهو ما سيغلق أبواباً عديدة لطالما اعتمدت عليها إسرائيل منذ نشأتها، وربما لهذا قال رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، في مؤتمره الصحافي في 27 من الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، إن على إسرائيل أن تطور الصناعات العسكرية، وأن تعتمد على نفسها في المنتجات الحربية، تحسّبا لما هو متوقّع بأن تقلّ المساعدات العسكرية من الولايات المتحدة وغيرها تحت ضغط ما قد تحمله من شبهة شريك في "الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بأسلحة أميركية" أو بريطانية أو ألمانية أو فرنسية أو أي دولة غربية أو غير غربية، خصوصاً في ظل الاحتجاجات العارمة المستمرّة التي تشهدها العواصم الغربية ومدن كبرى في العالم أجمع، الأمر الذي سيزيد الضغط على إسرائيل وقادتها وشعبها، وأيضا على داعميها الغربيين على وجه الخصوص بوصفهم شركاء في ارتكاب "الإبادة الجماعية" في غزّة إن لم يسارعوا لمنعها ووقف إمداد إسرائيل بالسلاح. وهو أيضا ما سيزيد زخم حركة التضامن العالمية مع الشعب الفلسطيني، وهي إذ تستشعر بأنها باتت مع هذه التدابير الاحترازية وشبهة ارتكاب إسرائيل الإبادة الجماعية أكثر قدرة على الضغط على هذه الحكومات لإيقاف الحرب. وهو ما سيمنح دولة جنوب أفريقيا هوامش أكبر للضغط بوصفها الشريك المراقب لمحكمة العدل الدولية في تنفيذ إسرائيل التدابير الاحترازية المانعة للإبادة من عدمه من خلال مشاركة إسرائيل التقرير الذي يجب أن تقدّمه بعد شهر من صدور أوامر محكمة العدل بهدف التحقق من الخطوات والتدابير الملموسة التي اتخذتها إسرائيل لمنع الإبادة الجماعية في غزّة، وفي مقدمتها الامتناع عن كل الأفعال التي تنضوي تحت "الإبادة الجماعية" التي ترد في البند الثاني من الاتفاقية، وأهمها قتل المدنيين وتدمير بيوتهم والبنى التحتية في غزّة أو قطع الماء والغذاء والدواء والمستلزمات الطبية والكهرباء والوقود وتقديم الخدمات الإنسانية الملحّة، وإدخال المساعدات إلى غزّة بشكل عاجل وكافٍ تتضمّن الأغذية والمواد الطبية وأساسيات العيش المنقذة للحياة، وأن تمنع التصريحات الإسرائيلية المحرضة على الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين وتعاقب من يطلقها، وأن تحافظ وتحمي كل الأدلّة المتعلقة بأفعال الإبادة الجماعية وعدم إتلافها وأن تقدّم تقريرا تثبت فيه أنها امتثلت لهذه الأوامر في غضون شهر من صدور هذه الأوامر.
التدابير الاحترازية التي اتخذتها محكمة العدل الدولية ستقلص هامش المراوغة لدى إسرائيل، وستزيد عزلتها الدولية وستقوّض سمعتها
حتى لو لم تمتثل إسرائيل لأوامر محكمة العدل الدولية أو راوغت أو التفّت عليها، فإن هذه التدابير الاحترازية ستقلص هامش المراوغة لديها، وستزيد عزلتها الدولية وستقوّض سمعتها وروايتها التاريخية حول أحقيتها بأرض فلسطين في العقود المقبلة وربما ستدفع الدول العربية إلى مراجعة حساباتها وتغيير نهجها المتخاذل بحقّ الشعب الفلسطيني ومعها دولٌ إسلامية كثيرة.
مجرّد قبول محكمة العدل بالولاية القضائية التي تؤهلها لقبول دعوى جنوب أفريقيا ضد إسرائيل في شبهة ارتكابها "إبادة جماعية في غزّة" هي نصف الطريق للإدانة، وتقع أهمية هذا القبول في وسط عالم متغيّر يتّجه نحو نظام عالمي متعدّد القطبية كان على وشك أن يطمس القضية الفلسطينية تحت عجلة هذا التغيير وتصارع المصالح اللاإنسانية لقوى الهيمنة والاستبداد للنظام العالمي النيوليبرالي المتوحش، وإذ بها تحتلّ الصدارة لتكون فلسطين بوصلة التحرّر العالمي والعنوان الذي تتّجه إليه حركة التضامن العالمي، اليوم من أجل فلسطين وكل يوم من أجل عالم حرّ ومستقر وعادل للإنسانية جمعاء.