هل تغزو بيلاروسيا بولندا بالوكالة؟

28 يوليو 2023

نساء بولنديات في احتجاج ضد روسيا وبيلاروسيا في كراكوف جنوب بولندا (23/7/2023/ Getty)

+ الخط -

عادت التصريحات عن غزو بولندا إلى الظهور، ولكن هذه المرّة على لسان الرئيس البيلاروسي، ألكسندر لوكاشينكو، وليس على لسان القادة الروس الذين روّجوا الأمر كثيراً، بعد أشهر قليلة من غزوهم أوكرانيا، متذرّعين بمرور الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا عبر الأراضي البولندية، ما يجعلها طرفاً في الحرب. وإذ لا تعدّ هذه السردية جديدة على القادة الروس وحلفائهم، إلا أن الغزو قد يأخذ هذه المرّة شكلاً جديداً مغايراً لغزو روسيا المباشر الأراضي الأوكرانية، سيكون عبر قوات مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة التي انتقلت إلى بولندا، ومن ثم عبر الجيش البيلاروسي في حال استهدفت بولندا الأراضي البيلاروسية ردّاً على انطلاق مليشيا فاغنر منها. وإذا حدث هذا الأمر، تصبح الحرب هذه المرّة بالوكالة عن روسيا، ربما للتخفيف من التبعات على موسكو، أو لأغراضٍ أخرى لم تتضح بعد.

وفي محاولة للتنصّل من الأمر وتبرئة ساحته من المسؤولية، قال الرئيس لوكاشينكو، في لقائه نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، في موسكو قبل أيام: "ترغب قوات فاغنر بشدّة في التحرك للوصول إلى الغرب"، ويقصد بولندا. وأضاف ممازحاً الرئيس الروسي: "قالوا إنهم يرغبون بالقيام برحلة إلى وارسو وزوسوف". ثم أضاف: "إنهم يريدون ذلك لأنهم يعلمون تماماً من أين تأتي التعزيزات الغربية إلى أوكرانيا، ولديهم دافعٌ داخلي للتحرّك، ونحن نحاول الضغط عليهم لكيلا يتحرّكوا، وسنحاول وقف هذه التصرفات". وفي هذا الأمر محاولة منه ومن الرئيس الروسي الإيحاء بأن مغامرة فاغنر المحتملة ليست مدفوعة من روسيا أو بيلاروسيا، بل تقوم بها قوّة عسكرية خرجت عن طاعة الكرملين، ولا يستطيع الرئيس البيلاروسي ضبطها.

وفي إطار التجييش ضد بولندا، طلب لوكاشينكو من الرئيس الروسي دعم اقتراحه بشأن غرب أوكرانيا، أي مواجهة الخطة البولندية التي لا يتوقّف قادة روسيا وبيلاروسيا عن الحديث عنها في محاولة لإحياء الصراعات التاريخية، والتي تقول بوجود نيّة لدى بولندا للسيطرة على غرب أوكرانيا، وهو ما كرّره بوتين في 22 يوليو/ تموز الجاري، أي قبل يوم من لقائه لوكاشينكو. وزاد بوتين على ذلك: "المناطق الغربية في بولندا الحالية ما هي إلا هدية قدمها الزعيم السوفييتي الراحل، جوزيف ستالين، للبولنديين في نهاية الحرب العالمية الثانية"، فهل هي إشارة إلى عزمه استرجاعها عبر الحرب؟

ربما لا يعرف الروس أن حربهم في بولندا ستكون مختلفةً عن حربهم في أوكرانيا، حينها ستكون حرباً مع "ناتو" بدوله مجتمعةً

ومع هذه التصريحات الجديدة، تعود مخاوف بولندا، وربما جميع الدول الأوروبية، إلى الظهور مجدّداً، بسبب رمزية غزو ألمانيا النازية بولندا في القرن الماضي وتداعياته الكارثية على العالم؛ إذ تسبّب احتلال قوات الزعيم النازي، أدولف هتلر، أراضيها في سبتمبر/ أيلول سنة 1939، في اندلاع الحرب العالمية الثانية. ويقارب السيناريو الذي وضعه الرئيس الروسي بوتين لتبرير غزوه أوكرانيا بحجّة حماية الأقليات التي تتحدّث اللغة الروسية في الجمهورية المجاورة، التبرير الذي ساقه هتلر قبل غزوه بولندا، معتمداً على رؤيته وإيمانه بضرورة توسيع حدود بلاده عبر "استعادة" ألمانيا الأراضي التي يقطنها أبناؤها الألمان في دول أخرى.

وكانت الخارجية الروسية قد أطلقت تهديداً أواسط السنة الماضية، محذّرةً من أن حدود بولندا الحالية ستصبح بلا قيمة إذا واصلت وارسو "التدخّل في الحرب" عبر استمرارها بالسماح بمرور شحنات الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا عبر أراضيها. وفي هذا السياق، قال نائب رئيس مجلس الدوما الروسي في الفترة ذاتها: "بولندا على رأس قائمة الانتظار لاجتثاث النازية منها بعد أوكرانيا"، ما يعدّ تهديداً صريحاً لها قائماً على مزاعم باطلة مماثلة للتي ساقتها موسكو لتبرير غزو أوكرانيا. ولم يتوقّف الروس هنا، بل زادوا كثيراً من جرعة تهديداتهم حين حذّرت الخارجية الروسية يومها من حربٍ عالميةٍ ثالثة بسبب تصرّفات بولندا والولايات المتحدة. وفي هذا ربما إشارة إلى انطلاق الحرب العالمية الثانية من الأراضي البولندية، واحتمال تكرار ذلك السيناريو المخيف في حال قرّروا غزو بولندا، وهو احتمالٌ قائم، أو على الأقل تسبُّبه في حربٍ تشمل القارّة الأوروبية.

ليست مخاوف البولنديين من غزو بلادهم وليدة الحرب التي شنّتها روسيا على أوكرانيا، في 24 فبراير/ شباط 2022، بل تعود إلى العام 2014، حين أعلنت موسكو ضمّ جزيرة القرم. يومها رأى البولنديون أن روسيا لن تتوقّف عند حدود أوكرانيا، بل ستنطلق نحو الغرب باتجاه بلادهم، وهو ما أعاد إحياء الخوف التاريخي لدى أبناء البلاد مما سمّوها "روسيا العدوانية"، وقالوا إن الوحش الروسي لن تسدّ أوكرانيا جوعه. لذلك كثرت التقارير التي وصلت إلى قادة بولندا من مسؤوليهم الأمنيين بشأن التهديد الذي باتت تشكله "روسيا الحديثة ذات النزعة العدوانية". وعلى هذا الأساس، زادت بولندا من إنفاقها العسكري ومن عملية تجييش الرأي العام لتشجيع مواطنيها على الالتحاق بالجيش مع إعلان وزارة الدفاع عن استعدادها لتوفير التدريب العسكري لأي مواطن يرغب بذلك، تحسّباً لهجوم روسي على أراضيها. أما هذه الأيام فبولندا تستعدّ لهذا الاحتمال منذ اليوم الأول للغزو الروسي لأوكرانيا، بخطط متكاملة وبالتنسيق مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ما يجعل المواجهة معها مختلفةً عن المواجهة مع أوكرانيا.

كثرت التقارير التي وصلت إلى قادة بولندا بشأن التهديد الذي باتت تشكله "روسيا الحديثة ذات النزعة العدوانية"

ولكن، لماذا يغامر الروس بتوتير الأجواء مع بولندا، ويحضِّرون الرأي العام لحربٍ مقبلةٍ مع هذه الدولة التي تعد عضواً مهما في حلف الناتو، على الرغم من المخاطر التي تترتّب على شنّهم عدواناً مباشراً أو بالوكالة عليها؟ من المؤكّد أن الروس على اطّلاع على المادة الخامسة من ميثاق "ناتو"، والتي تقول إن أي هجوم أو عدوان مسلح ضد دولة عضو في الحلف يعدّ عدواناً على جميع الدول أعضاء الحلف، وهو ما ينطبق على بولندا. لذلك فإنهم، ومن مبدأ حقّ الدفاع الذاتي الذي ينصّ عليه ميثاق الأمم المتحدة، يحقّ لدول "الناتو"، منفردين أو مجتمعين، تقديم العون والمساندة للطرف الذي تتعرّض بلاده للهجوم. كما يفرض على تركيا، عملاً بتلك المادّة، أن تكون طرفاً لردّ العدوان الروسي أو البيلاروسي، كونها عضواً أساسياً في الحلف، وهو ما سيعرّض علاقتها المميّزة مع روسيا للاهتزاز، أو حتى للخطر، ما يزيد من عزلة روسيا وضعفها، فهل تفكَّر قادة الكرملين في هذا الأمر؟

ليس من المعروف إن كان ما يدفع روسيا إلى تهديد بولندا، أو حتى شنّ هجوم عليها واجتياح أراضيها، هو مسعاها إلى دبِّ الفوضى في القارّة الأوروبية من أجل إضعافها. وليس معروفاً ما إذا كان السبب أن شهوة الحرب قد استبدّت بالقادة الروس، ولم يعودوا يروْن سوى الحرب سياسةً لهم، غير مكترثين بتبعاتها الكارثية على شعبهم أو الشعوب الأوروبية. لكن، إذا كان الدافع هو الأمرين معاً، فإنهم ربما لا يعرفون أن حربهم في بولندا ستكون مختلفةً عن حربهم في أوكرانيا، حينها ستكون حرباً مع "الناتو" بدوله مجتمعةً. في ذلك الوقت، ستصح في بولندا كذبتهم التي أرادوا من الجميع تصديقها حين زعموا، سنة ونصف السنة، إنهم لا يحاربون أوكرانيا، بل يحاربون "ناتو" في أوكرانيا. عندئذ سيختلف الأمر عليهم، كما لم يكن في أوكرانيا.

46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.