هل السوريون سعداء في تركيا؟
ما تزال آثار وإرهاصات وجود أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين في تركيا تتفاعل على مختلف الصعد السياسية والاجتماعية والثقافية، خصوصا وأن السوريين، وبعد مرور ما يقارب عشر سنوات على ثورتهم، وغياب أي أفقٍ حقيقيٍّ لحل سياسي في بلادهم، لم يعودوا مجرّد لاجئين ينتظرون نهاية الحرب الكارثية في بلادهم، كي يعودوا إليها، بل تحولوا إلى مهاجرين يحاولون التأقلم والتكيف مع الأوضاع الجديدة في المجتمع التركي، ونما استعداد كبير لدى معظمهم لطيّ صفحة الماضي، والبدء في حياة جديدة، وكأنهم ولدوا من جديد.
ويفيد أحدث بحث ميداني تناول أوضاعهم وهمومهم، وجرت مناقشته أخيرا في البرلمان التركي، أن عدد اللاجئين السوريين بلغ ثلاثة ملايين و635 ألفا في تركيا، وأن نسبة 51.8% منهم "لا يريدون العودة إلى سورية بأي شكل"، بينما كانت نسبتهم 16.7% في عام 2017. كما أن نسبة الذين يريدون العودة إليها في حال انتهاء الحرب وتشكيل نظام جديد انخفضت إلى 30%، بينما كانت نسبتهم 60% في عام 2017، فيما يخطط 6.8% من اللاجئين للعودة إلى سورية.
عدد اللاجئين السوريين بلغ ثلاثة ملايين و635 ألفا في تركيا، ونسبة 51.8% منهم "لا يريدون العودة إلى سورية بأي شكل"
ويستنتج مدير مركز أبحاث الهجرة والاندماج في الجامعة التركية الألمانية في إسطنبول، مراد أردوغان، الذي أشرف على البحث وأعدّه، أن "سعادة السوريين في تركيا قد ازدادت"، وأن هنالك تصوّرا أنهم "يشعرون بتحسّن وبأمان أكثر من الأعوام الثلاثة السابقة". والسؤال في هذا السياق: هل السوريون سعداء في تركيا؟
تعاطف ثم كراهية
بداية يصعب القول إن اللاجئين السوريين سعداء في أي بلد من بلدان اللجوء، إذ لا يمكن التكهن بأن من أُجبر على الهروب من بلده يمكنه أن يكون سعيداً في أي بلد آخر. والأمور نسبية، ووضع غالبية السوريين في تركيا أفضل كثيراً من أوضاع أقرانهم في البلدان العربية، وخصوصا لبنان والأردن وسواهما، لكن ذلك لا يخفي تبعات اللجوء في تركيا، وصعوبات العيش والتكيف والاندماج وسوى ذلك.
لا يمكن التكهن بأن من أُجبر على الهروب من بلده يمكنه أن يكون سعيداً في أي بلد آخر
والواقع أنه في السنوات الأولى للجوء السوري، أبدى المجتمع التركي، في غالبيته، تعاطفاً مع اللاجئين السوريين، كما أن الحكومة التركية وصفتهم بالـ"ضيوف"، واتبعت سياسة الأبواب المفتوحة أمام تدفقهم، وشيّدت مخيماتٍ عديدةً لإيوائهم، وقدّمت لقاطنيها مساعدات إنسانية كثيرة، وتركت للسوريين حرية السكن والتنقل والعمل، لكن الأمور تغيرت كثيراً في السنوات اللاحقة، إذ ظهرت نزعاتٌ معاديةٌ لهم في المجتمع التركي، وحاولت أحزاب المعارضة توظيف قضية اللاجئين سياسياً في إطار مناكفتها وصراعها مع حزب العدالة والتنمية (الحاكم)، ونشأت حملات تحضّ على الكراهية ضد الوجود السوري في تركيا، حيث يظهر البحث أنه في عام 2014، اعتبر 70% من الأتراك المستطلعة آراؤهم فيه أنه لا يوجد تشابه ثقافي أو ثقافة مشتركة بينهم وبين السوريين، ثم ارتفعت النسبة في 2019 لتبلغ 82%. وقال 75% من الأتراك إنه لا يمكنهم العيش بسلام مع السوريين في تركيا، كما عارض 80% من الأتراك المنتمين إلى حزب العدالة والتنمية منح السوريين حقوقاً سياسية.
الوجود السوري
يطلق على السوريين في تركيا وصف "لاجئين" مجازاً، لأن القوانين التركية لا تسمح بتصنيفهم لاجئين وفق اتفاقية جنيف التي وقعتها تركيا مع الأمم المتحدة عام 1951، ما يعني حرمانهم من حقوق اللاجئين في إطار القانون الدولي. في المقابل، استحدثت الحكومة التركية قانون "الحماية المؤقتة" الذي دخل حيز التنفيذ في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 2014، ويتضمن الإقامة غير المحدودة لهم في تركيا، وحمايتهم من الإعادة القسرية، وتوفير خدمات الرعاية الصحية والتعليم، ومعالجة الاحتياجات الأساسية الفورية. ويشمل نظام الحماية المؤقتة جميع اللاجئين السوريين، بمن فيهم الذين لا يملكون وثائق تعريف شخصية (هوية، جواز سفر). كما يشمل أيضاً الفلسطينيين القادمين من سورية أيضاً. ويوجد في تركيا القسم الأكبر من اللاجئين السوريين في العالم، بنسبة 65% منهم، حيث وصل عدد المشمولين بقانون الحماية المؤقتة إلى 3.610.022 لاجئاً حتى شهر أغسطس/ آب 2020 من بين 5.553.905 لاجئين اضطروا إلى مغادرة ديارهم، وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة، ويشكلون قرابة 4.5% من إجمالي سكان تركيا، البالغ عددهم 82 مليون نسمة. وبالمقارنة مع عدد سكان سورية، وفق إحصاءات رسمية في عام 2011، البالغ 20.8 مليوناً، فإن 17% من سكان سورية يوجدون في تركيا.
يطلق على السوريين في تركيا وصف "لاجئين" مجازاً، لأن القوانين التركية لا تسمح بتصنيفهم لاجئين وفق اتفاقية جنيف
وتُظهر أعداد وتوزع السوريين في تركيا أن أغلبهم يعيش في المدن التركية، فمن بين أكثر من 3.6 ملايين سوري، يوجد فقط 63443 سورياً في مخيمات اللاجئين السوريين التي تدعى رسمياً في تركيا "مراكز الإقامة المؤقتة"، وتقع في ولايات شانلي أورفا وأضنة وكلس وقهرمان مرعش وهاتاي وعثمانية وغازي عنتاب، أي أن جميع السوريين تقريباً يعيشون في المدن، وبالتالي فإن سمة اللجوء السوري هي لجوء حضري أو مديني.
وتعتبر إسطنبول المدينة التركية التي تضم أكبر عدد من السوريين، وبلغ 549 ألفا و903 أشخاص في 1 نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2019، ويشكلون ما نسبته 3.65% من سكانها، يليها في ذلك مدينة غازي عنتاب التي يوجد فيها 452 ألف سوري، أي 22.2% من إجمالي تعداد سكان المدينة، ومدينة هاتاي التي يعيش فيها 440 ألف سوري، أي 27.3% من إجمالي تعداد سكان المدينة، وشانلي أورفا التي يعيش فيها 429 ألفاً من السوريين أي 21.1% من إجمالي تعداد سكان المدينة. أما كيليس فهي المدينة التي تضم أكبر عدد من السوريين مقارنة بعدد سكانها، حيث يبلغ عدد سكانها 142 ألف نسمة، في حين عدد السوريين فيها 116 ألف شخص، أي أن 81.7% من القاطنين فيها هم من السوريين، بينما تعتبر بايبورت (شمالي شرق) أقل المدن من ناحية سكن السوريين فيها، إذ يعيش فيها 25 سورياً فقط، بحسب الإحصاءات التركية الرسمية.
العمل والأعمال
فرضت ضرورات العيش على اللاجئين السورين التكيف مع الظروف الجديدة، وأولها المشاركة في الأنشطة الاقتصادية، والبحث عن فرص العمل وتشييد الأعمال، حيث أصبح الانخراط في العمل أمراً لا بد منه، خصوصا بالنسبة إلى سكان المدن، نظراً إلى أن الدعم المادي للسوريين الذي بدأ منذ 2011 لا يشمل المقيمين خارج المخيمات، إلا في أحوال استثنائية جداً. وبدأ السوريين العمل بشكلٍ غير قانوني، لأن الحكومة التركية تأخرت في إصدار التشريعات الناظمة لعمل السوريين، حيث أصدرت لوائح تنظيمية في هذا الخصوص، واعترفت بموجبها في 15 يناير/ كانون الثاني 2016 بحق العمل للسوريين المشمولين بالحماية المؤقتة.
549 ألفا و903 سوريا في اسطنبول في 1 نوفمبر عام 2019، ويشكلون ما نسبته 3.65% من سكان المدينة
وبحثاً عن تأمين لقمة العيش، بدأ اللاجئون السوريون بالبحث عن عمل في مختلف أرجاء تركيا، ومن الطبيعي أن تكون إسطنبول وجهتهم الأولى، بوصفها المدينة الكوزموبولتية والأكبر في تركيا، والعاصمة الاقتصادية والسياحية فيها، ويمكن تأسيس الأعمال والحصول على فرص للعمل فيها أكثر من باقي المدن التركية، وخصوصا خارج الأطر القانونية.
وفي بدايات اللجوء، شعر غالبية السوريين في تركيا بالأمان، وكانوا يعيشون في انتظار العودة إلى بلدهم، لكن مع مرور الوقت، راحوا ينخرطون في قطاعات أعمال من أجل الانتفاع من بعضهم بعضا، ففتحوا مطاعم ومقاهي يرتادها زبائن سوريون، وأنشأوا مخابز للخبز السوري المميز، وفتح التجار الدكاكين والمتاجر التي تؤمن البضائع والمواد السورية، وفُتحت معامل وورشات الخياطة والنسيج والألبسة، كما افتتحوا مدارس للطلاب السوريين التي تعلم مناهج دراسية لمختلف المراحل التعليمية، كما أُنشئت مراكز لتعليم اللغات، وخصوصا اللغة التركية للسوريين وسوى ذلك. كما أنشأ سوريون مشافي ومراكز وعيادات صحية، طاقمها من الأطباء والممرضين السوريين، وراح أطباء آخرون يفتحون عياداتٍ في بيوتهم، كي يستقبلوا ويعالجوا المرضى السوريين، كما أسّس سوريون منتدياتٍ ثقافية ومؤسسات إعلامية، فصدرت مطبوعات دورية عديدة ومواقع إلكترونية، وأسسوا محطات تلفزيون وراديو، كما نشأت جمعيات سورية مدنية في مختلف المجالات.
مع مرور الوقت، راح السوريون ينخرطون في قطاعات أعمال من أجل الانتفاع من بعضهم بعضا، ففتحوا مطاعم ومقاهي يرتادها زبائن سوريون
وهكذا مع مرور سنوات اللجوء، نشأت مجتمعات العمل والأعمال في سائر المدن التي يوجد فيها أعداد كبيرة من السوريين، وبات السوري يعمل في مكان سوري، ويرتاد مقهى أو مطعما سوريا، ويذهب إلى صالون حلاقة سوري، ويشتري ما يحتاجه من محلات سورية تؤمن بعض البضائع والسلع السورية، ويسكن في أحياء ومناطق يسكنها سوريون بكثافة، وبات معظم السوريين لا يحتاج للاحتكاك بالمواطنين الأتراك إلا قليلاً، وأفضى ذلك إلى نشوء ما يشبه مجتمعات سورية موازية.
صعوبات وتحدّيات
ويفيد البحث الذي قدّمه مراد أردوغان بأن مليونا و300 ألف سوري يعملون في تركيا، وبدأوا حياة جديدة، ولم يعد يهمهم ما يحدث في سورية، بينما تظهر دراسات أن عدد السوريين في سنّ العمل (15 - 65 سنة) المسجّلين في تركيا هو 2.1 مليون شخص. ويتوزع المنخرطون منهم بنشاط في سوق العمل على قطاعات النسيج والألبسة وقطاعات الخدمات والبناء والتعليم والزراعة وسواها.
لرجال الأعمال السوريين مساهمات مهمة في عملية التكيف والاندماج الاقتصادي، وتمكّنوا من تأسيس أعمالهم التجارية الخاصة بهم في تركيا
وكانت لرجال الأعمال السوريين مساهمات مهمة في عملية التكيف والاندماج الاقتصادي، وتمكنوا من تأسيس أعمالهم التجارية الخاصة بهم في تركيا، وفق قانون التجارة التركي، حيث تعود أكثر الشركات الأجنبية التي تم تأسيسها في تركيا عامي 2017 - 2018 إلى السوريين، وبلغ عدد الشركات التي يساهم فيها شريك واحد على الأقل سوري الجنسية 15.159 شركة، حسب الأرقام الرسمية التركية.
ويعاني السوريون من صعوبات كثيرة في سوق العمل، تتعلق بتدنّي الأجور التي يتقاضونها، وساعات العمل الطويلة، والتنمر والمعاملة السيئة التي يتلقونها من بعض أرباب العمل، وعدم وجود ضمان صحي، إلى جانب افتقارهم لإتقان اللغة التركية، وعدم قابليّة نقل بعض خبراتهم ومهاراتهم إلى سوق العمل، وتدنّي مستويات التعليم. وهناك صعوباتٌ في الحصول على معادلاتٍ لشهاداتهم الدراسية. لذلك يضطرّ كثيرون منهم للعمل في أعمال أخرى ذات أجور متدنية، وعادة ما يكونون عرضةً للاستغلال، بينما يجد متعلمون منهم أنفسهم خارج سوق العمل، وهو ما يمثل خسارة للاقتصاد التركي، لأن السوريين، في النهاية، يمثلون قوة اقتصادية واجتماعية، بما لديهم من خبرات ومهارات ورغبة في العمل.
أسهم انخراط السوريين المبكر في سوق العمل التركي في التخفيف من صعوبة ظروفهم المعيشية والتكيف والانسجام والنشاط الاقتصادي
وقد أسهم انخراط السوريين المبكر في سوق العمل التركي في التخفيف من صعوبة ظروفهم المعيشية والتكيف والانسجام والنشاط الاقتصادي، لكن التشريعات التركية لم تعمل على نقل السوريين من حالة العمل غير القانوني إلى الحالة الرسمية. لذلك اضطروا للعمل فيه بشكل غير رسمي. ومع ذلك، تمكن سوريون كثر من تأسيس حياة جديدة في تركيا، وذلك بعد أن فقدوا ما كانوا يمتلكونه في بلدهم. ولذلك يميل قسم كبير منهم نحو البقاء في تركيا والحصول على جنسيتها، من أجل تسهيل سبل عيشه وأعماله، ولم يعد يفكر بالعودة إلى سورية في ظل تلاشي الآمال بالتوصل إلى حل سياسي ينهي الكارثة التي ألمّت بهم.
ويبدو أن سياسة الحكومة التركية التي اتبعتها بعدم إجبار السوريين على الإقامة في المخيمات والسماح لهم بالعمل، ولو بشكل غير رسمي، قد أفادت السوريين في التخفيف من معاناتهم وتأمين معيشتهم، وأسهمت كذلك في رفد الاقتصاد التركي بقوة العمل السورية، وبخبرات وطاقات العاملين السوريين. ولكن مع مرور الوقت تحولت مسألة الوجود السوري في تركيا، نتيجة الصراعات السياسية الداخلية التركية، إلى مسألة سياسية ووطنية، مجرّدة من أي بعد قانوني دولي أو إنساني وأخلاقي، مع أن مسألة اللاجئين السوريين، يجب النظر إليها من جهة اختبار النموذج التركي للديمقراطية، ومدى وجود بنية قانونية تحمي الانسان وتحفظ حقوقه، بصرف النظر عن جنسيته، طالما أنه يوجد على الأرض التركية، وهي قضية تتطلب من الحكومة التركية اتخاذ إجراءاتٍ قانونيةٍ لدمجهم في سوق العمل وفي المجتمع التركي، ويمكنها كسر الجمود في هذه الأزمة الإنسانية التي يعاني من تبعاتها ملايين السوريين، بعد أن أجبرتهم الحرب الشاملة التي خاضها النظام السوري، وحلفاؤه الروس والإيرانيون، ضد غالبيتهم، إلى مغادرة بلادهم، وباتوا يعانون كثيراً من تبعات النزعات الكارهة للاجانب، إلى جانب عن تبعات التهجير القسري، وصعوبات العيش والاندماج.