هل الأزمة الأوكرانية نقطة تحول في مسار النظام الدولي؟

19 فبراير 2022
+ الخط -

ما هي الأسباب الحقيقية للأزمة الأوكرانية التي يُخشى من أن تؤدّي تطوراتها المحتملة إلى مخاطر كبيرة، تهدّد باندلاع مواجهة مباشرة بين أكبر قوتين نوويتين؟ ومن المسؤول عن تصعيدها؟ هل هي روسيا التي حشدت أخيرا أعدادا كبيرة من قواتها المسلحة على حدودها مع أوكرانيا، وتتهمها إدارة بايدن بالتخطيط لغزو أوكرانيا، وإسقاط نظامها الحاكم، وتثبيت نظام عميل لها مكانه، أم هي الولايات المتحدة التي تتهمها روسيا بالعمل على تحويل أوكرانيا المجاورة إلى دولة معادية لها، واستخدامها نقطة ارتكاز في استراتيجية حلف الناتو الساعية إلى احتوائها وحصارها ونشر الأسلحة الإستراتيجية على حدودها؟ يبدو أن أحدا لم يعد مهتما بالبحث عن إجابة لهذا النوع من الأسئلة، لأن الكل بات مشغولا بكيفية إدارته هذه الأزمة أكثر من انشغاله بالبحث عن أسبابها أو عن المتسبّب في تصعيدها، فقد أقدمت إدارة الرئيس الأميركي، بايدن، على شن حملة إعلامية واسعة النطاق على روسيا الاتحادية، لتثبيت فكرة أنها تحضّر فعلا لشن هجوم عسكري واسع النطاق على أوكرانيا، ثم عملت على توظيف هذه الحملة لتبرير قرارها مد أوكرانيا بالمعدّات العسكرية المتطورة اللازمة لتمكينها من الصمود في مواجهة الغزو الروسي المحتمل. وهي لم تكتف بذلك، وإنما سعت، في الوقت نفسه، إلى حشد كل الدول الأعضاء في حلف الناتو وتعبئتها وحثها على اتخاذ موقفٍ قويٍّ في مواجهة روسيا. ويبدو أنها تمكنت بالفعل من إقناع معظمهم بأهمية توحيد صفوفهم وضرورته والانضمام إلى جهودها الرامية إلى فرض أقسى أنواع العقوبات المنسّقة على روسيا، في حال إقدامها على غزو أوكرانيا بالفعل. وبينما تنفي روسيا أن يكون لديها أي نية لغزو أوكرانيا، وتؤكد على أن الحشود والمناورات العسكرية التي تقوم بها على حدودها مع أوكرانيا هي من قبيل التحرّكات والأعمال الروتينية التي تتم داخل حدودها السيادية، إلا أنها لا تنفي، في الوقت نفسه، معارضتها التامة انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، وتعتبر ذلك خطا أحمر، سيؤدي تجاوزه حتما إلى اتخاذ كل ما يلزم للحيلولة دون وقوعه.

موضوع انضمام أوكرانيا لحلف الناتو كان العامل الرئيسي وراء انفجار الأزمة

وأيا كان الأمر، ولأنه بات من الواضح أن موضوع انضمام أوكرانيا لحلف الناتو كان العامل الرئيسي وراء انفجار الأزمة، يمكن في هذه الحالة النظر إلى الحشود العسكرية الروسية على حدود أوكرانيا باعتبارها الوسيلة أو الأداة التي لجأت إليها روسيا لردع أوكرانيا أو لحملها على التراجع عن طلب الانضمام إلى الحلف، كما يمكن النظر إلى رد الفعل الغربي باعتباره الوسيلة التي لجأت إليها الولايات المتحدة للرد على التحرّك الروسي، ولتثبيت الموقف الأوكراني الراغب في الانضمام إلى "الناتو" باعتباره حقا سياديا لا يجوز المساس به، وتشجيعها على مواصلة السير على النهج نفسه. فإلى أين تتجه الأزمة الأوكرانية، في ظل ما يبدو أنه تنازع على حقين: حق روسيا في حماية أمنها القومي، في مواجهة أخطار حقيقية يجسّدها زحف متواصل لحلف الأطلنطي في اتجاه حدودها الغربية، وحق أوكرانيا في رسم سياستها الخارجية بشكل مستقل، وفقا لما تمليه عليها مصالحها الوطنية، وبالتالي حقها في اختيار الحلفاء وتحديد الأعداء؟

إذا نظرنا إلى إدارة الأزمة الراهنة من منظور روسي، سوف يسهل علينا فهم مواقف روسيا تجاهها، فأهمية أوكرانيا بالنسبة لروسيا تنبع ليس فقط من أنها أكبر الدول التي كانت جزءا من الاتحاد السوفييتي، ولكن أيضا من أنها جارة ويشتركان معا في حدود يبلغ طولها 1576 كلم، ومعنى انضمامها إلى حلف الناتو أنه سيكون بمقدور هذا الحلف المعادي لروسيا الاتحادية نشر أسلحته المختلفة، بما فيها الصواريخ متوسطة المدى، على امتداد تلك الحدود، وهو أمر يستحيل قبوله من المنظور الإستراتيجي أو الجيوسياسي الروسي. صحيحٌ أنه سبق لروسيا أن تغاضت عن انضمام جمهوريات كانت فيما مضى جزءًا من الاتحاد السوفييتي إلى حلف الناتو (أستونيا ولاتفيا وليتوانيا التي انضمت للحلف عام 1999)، لكن ذلك تم في وقت كانت روسيا ضعيفة ومنشغلة بإعادة بناء مؤسساتها، فضلا عن أن الأمر كان يتعلق بدويلات صغيرة لا يمكن مقارنتها بأوكرانيا من حيث الأهمية.

روسيا تريد بمواقفها الحالية تجاه الأزمة الأوكرانية أن تبعث رسالة إلى الغرب، تقول له فيها إن موازين القوى تغيرت

بعبارة أخرى، يمكن القول إن روسيا تريد بمواقفها الحالية تجاه الأزمة الأوكرانية أن تبعث رسالة إلى الغرب، تقول له فيها إن موازين القوى قد تغيرت، وإنها أصبحت الآن في وضع يسمح لها برفض ما كانت مضطرّة لقبوله والإذعان له من قبل. لكن ليس معنى ذلك أبدًا أنه لم يعد أمام روسيا من سبيل لتحقيق هذا الهدف سوى غزو أوكرانيا، فالواقع أن أمام روسيا بدائل أخرى كثيرة للضغط، ليس أقلها مواصلة العمل على تجزئة أوكرانيا وتفتيتها، من خلال دعم الحركات الانفصالية في المناطق التي تقطنها أغلبية من أصول روسية أو ناطقة باللغة الروسية. لذا يبدو لي أن روسيا تسعى من الحشد العسكري على حدودها مع أوكرانيا إلى تحقيق هدفين: الضغط على أوكرانيا للعدول عن طلب الانضمام إلى حلف الناتو. والضغط على الدول الغربية للحصول على ضمانات أمنية مكتوبة، تؤدّي، على أقل تقدير، إلى الالتزام بوقف توسع "الناتو" شرقا، إن لم يكن العودة إلى الوضع الذي كان قائما قبل 1997، أي قبل انضمام دول البلطيق إليه.

أما إذا نظرنا إلى إدارة الأزمة من منظور غربي، خصوصا الأميركي، فسوف يسهل علينا أن نكتشف أنه لم يكن أمام الولايات المتحدة، للرد على قرار الرئيس الروسي، بوتين، الحشد العسكري، سوى الاختيار بين بديلين. الرضوخ والاستسلام لمطلب روسيا بقاء أوكرانيا بعيدا عن حلف شمال الأطلسي، أو دعم موقف أوكرانيا وتشجيعها على الصمود في وجه التهديدات الروسية والغزو المحتمل، بكل ما ينطوي عليه هذا البديل من احتمالات المواجهة المباشرة مع روسيا. وقد اختارت إدارة بايدن البديل الثاني، اعتقادا منها بأنه الأقل تكلفة على الصعيد الإستراتيجي، فالقبول بالبديل الأول يضع الغرب في موقف الطرف الأضعف في معادلة القوى، وينطوي على مخاطر جمّة في المستقبل، أقلها فتح شهية الطرف الروسي على مزيد من المطالب. أما البديل الثاني فيمكنه، على الرغم مما قد ينطوي عليه من مخاطر نحو مواجهة يصعب السيطرة عليها، توفير مظلة للبحث عن تسويةٍ تقوم على حلول وسط، شريطة إدارة هذا البديل بحكمة وتعقل. لذا يمكن القول إن الحملة الإعلامية التي شنتها الإدارة الأميركية استهدفت إظهار روسيا بمظهر الدولة المتجبّرة التي لا تتورّع عن استخدام القوة العسكرية للوصول إلى مآرب غير مشروعة، بالعمل على إخضاع الدول المجاورة لإرادتها هي وحرمانها من ممارسة سيادتها ورسم سياستها الخارجية بشكل مستقل، في حين استهدف الدعمان، العسكري والاقتصادي، لأوكرانيا تمكينها من الصمود في وجه الضغوط الروسية، على أمل إجبار روسيا، في النهاية، على تفضيل البحث عن حلول وسط يمكن الوصول إليها بالوسائل السلمية.

الأزمة الأوكرانية باتت كاشفة عن حاجة النظام الدولي الملحة لنقطة توازن تفرضها موازين القوى الجديدة فيه

لكن أي نوع من الحلول الوسط يمكن التوصل إليها؟ وهل يعني البحث عنها استبعاد اللجوء إلى الوسائل العسكرية بالضرورة؟ يبدو أن الأزمة وصلت إلى مفترق طرق، فروسيا تخشى أن يكون الهدف من الدعم العسكري والاقتصادي الذي تقدّمه الدول الغربية لأوكرانيا، والذي ما زال يتدفق عليها كالسيل، ليس فقط دعم المواقف السياسية للحكومة الأوكرانية، وإنما تشجيعها، في الوقت نفسه، على استعادة سيطرتها على الأقاليم التي تسعى إلى الانفصال عنها، ولو باستخدام القوة المسلحة. لذا يمكن القول إن الكرة باتت الآن في ملعب الإدارة الأميركية، فإذا كانت حقا تريد التوصل إلى تسوية سلمية للأزمة الأوكرانية، فلن يكون أمامها سوى أن تقبل، في نهاية المطاف، بضمانات مكتوبة تتعهد فيها ببقاء حلف شمال الأطلسي بعيدا تماما عن الحدود الروسية، وربما القبول بحياد أوكرانيا، في مقابل تعاون روسيا في ضمان وحدة الأراضي الأوكرانية. حينها، سيكون في وسع الولايات المتحدة أن تدّعي أنها تمكّنت من الحيلولة دون غزو روسيا أوكرانيا، وسيكون في وسع روسيا أن تدّعي أنها حصلت من الغرب على الضمانات التي تحتاجها، للمحافظة على أمنها القومي. أما إذا كان الهدف من المساعدة العسكرية المقدّمة لأوكرانيا تمكينها من الإصرار على طلب الانضمام لحلف الناتو، والسعي إلى تحقيق وحدة الأراضي الأوكرانية، ولو باستخدام القوة المسلحة، ففي تقديري أن روسيا لن تتردّد، في هذه الحالة، في دعم الحركات الانفصالية بكل الوسائل المتاحة، حتى لو اضطرّت لغزو أوكرانيا عسكريا وإسقاط نظامها. وأظن أن العقوبات التي تلوّح بها الولايات المتحدة والدول الأوروبية لن تكون في هذه الحالة كافية لردع روسيا.

الأزمة الأوكرانية باتت كاشفة عن حاجة النظام الدولي الملحة لنقطة توازن تفرضها موازين القوى الجديدة فيه، وهي نقطة أظن أنها سوف تجبر الناتو حتما على وقف تمدّده شرقا، وربما العودة لاحقا إلى حدود 1997، وذلك لتمهيد الطريق أمام إمكانية البحث الجدّي عن صيغة أمن جماعي في أوروبا تكون أكثر توازنا.