هل اختفى العرب أم تحوَّلوا أشباحاً؟

14 أكتوبر 2021
+ الخط -

بمتابعتك في السنوات الأخيرة بعض ما يجري في العالم العربي تتأكد أن العرب اختفوا. ويبدو أن اختفاءهم عن الأنظار والأسماع حصل بفعل قوة تاريخية أصْلَب وأَعْتَى من كل المزايا التي كانوا يعتمدونها لإثبات حضورهم. تأكدت من هذا الأمر، على الرغم من وجود علاماتٍ أخرى تشير إلى ما يُعَيِّن بعض أوجُه حضورهم أو حضور ظلالهم. يتعلق الأمر بجيوشٍ من الأشباح التي تملأ الجغرافيات العربية، أشباحٍ تتحدّث بلغة قريبة من لغتهم، تفكر في قضايا وأسئلة قديمة، وأخرى طُرِحت منذ ما يزيد على قرن .. أشباح صامتون وأشباح يردِّدون كلاماً مُعَاداً، يتخاصمون وتصيبهم، بين حين وآخر، حَالَةٌ من الصَّمَم، فلا يسمع الواحد منهم ما يقوله الآخر ويَرُدّ عليه، ولا يسمع الآخر الرّدّ ويواصل الكلام. يعمّ الصَّمت أحياناً، فتغيب الأشباح، وتبقى ظلالها شاهدةً على وجودٍ في طور الاندثار.

استيقظت قبل عقد على الحلم العربي الكبير، مقاومة الاستبداد والفساد وبناء مجتمع الحرية، بناء المشروع الديمقراطي العربي. ورأيت الساحات العمومية في المدن العربية الكبرى مشرقاً ومغرباً، وقد انطلق شبابها في الغناء بشعاراتٍ تروم استكمال مشروع التحرّر والتحرير. استبشرت خيراً بسقوط أنظمةٍ سياسيةٍ عَمَّرَت طويلاً، من دون أن توفر لشعوبها الحدود الدنيا من التنمية والعيش الكريم. ولم تتمكّن الاندفاعة القصوى لتباشير الربيع العربي، والتي تواصلت طوال عقد، وشملت أغلب البلدان العربية، لم تتمكَّن من بلورة المسار السياسي المُطَابِق لِلشِّعارات التي تَمَّ التَّغَنِّي بها في المظاهرات والمسيرات، ولم يتواصل بناء مسار المشروع الديمقراطي، العنوان الأبرز للانفجارات التي حصلت، وكان الجميع ينتظرها. تأكدت من اختفاء العرب، مع أنني ما زلت أسمع ضجيجهم، فقد تحوّلوا مجرد أشباح. كيف حصلت عملية الاندثار؟ وكيف عاشوا في غفلة مما لحقهم من وَهَنٍ وتمزُّق حتى بلغوا حافّة الانقراض؟

تتواصل اليوم في المحيط العربي كثير من تداعيات الثورات العربية، سواء داخل البلدان التي استطاعت إسقاط حكامها وتعطيل بعض دعائم أنظمتها السياسية، أو البلدان التي تصدَّت بالفعل المناهض للثورات، قصد وَقْف استمرار لهيب شراراتها، إلا أن أغلب البلدان العربية لم تتمكَّن من الوقوف على ما آلت إليه أوضاعها بعد انفجارات 2011، وساهم وباء كورونا منذ سنتين في تعميق درجات الفراغ والغياب الحاصليْن في الفضاء السياسي العربي. ونتصوَّر أنه، أمام معطياتٍ مُماثلةٍ تحصل في التاريخ، يَسْهُل الاندحار والسقوط كما يَسْهُل الانقراض..

لم يتمكّن العرب من التصالح بعد مع ذواتهم ومع العالم من حولهم، ومنذ ما يزيد عن قرنين وهم يتحدّثون باللغة نفسها ويُرَكِّبون الأسئلة التي لم تعد مطروحة

يعيش العرب اليوم حالة ذهولٍ قُصوى، يصعب فيها الإدراك الواضح لكل ما يجري، كما يصعب فيها تحديد الأيدي والأصابع التي تُمارس سطوتها داخل الجغرافيا العربية بأسماء وألوان مختلفة، خصوصاً ونحن نعيش في زمنٍ اختلطت فيه قواعد الحرب والإبادة الجماعية والسلام. زمن عادت فيه لغة الطوائف والأعراق إلى الظهور، وتحوّلت كثير من مجتمعات المشرق والمغرب العربيين إلى مجتمعاتٍ منقسمة. اختفى الوطن واختفت الأوطان الصغرى، كما اختفى مشروع الوطن الواحد والكبير، واختفى أيضاً مشروع تحرير فلسطين. انتصبت أشجار النسب وأساطير الأصول، لِتحوِّل كثيراً من بلدان المشرق العربي، ليبيا وسورية واليمن .. إلى فسيفساء تنتظر مِقَصّ المُتَربِّصين بالجغرافيا العربية من القِوَى الإقليمية والدولية. وفي مثل هذه الأحوال، يصعب النظر والبحث في السُّبُل والمخارج التي يستعيد فيها العرب قدرتهم على الفهم والمواجهة والفعل.

حَوَّلَت مظاهر التبعية أغلب الدول العربية إلى مجرّد دويلاتٍ، مُنَفِّذَةٍ لبرامج وخُطَط يسطِّرها الآخرون، وهذا الأمر بالذات يقدّم الدليل على الاختفاء الذي يُرَاد منه مَحَو مشروع النهوض العربي من الخرائط، وتطلُّعات النهوض الممكنة التي تَغَنَّت بها، وبحماسٍ كبير، أجيال من العرب، فكيف تَمَّ وَقْف المشروع العربي في الوحدة والتنمية والتقدّم؟ كيف تقوم اليوم، دولة الكيان الصهيوني بتعزيز حضورها وترسيخ آليات اختراقها، بِمَدّ جسورٍ من الصِّلات مع أغلب البلدان العربية؟

لا نَتَرَدَّد في وصف الحال العربي اليوم، بأنه يقدّم صورة واضحة عن صور الاختراق الصهيوني الجديد، حيث عُقِدَت معاهدات تعاونٍ مع دول عربيةٍ كثييرة، معاهدات قُدِّمت فيها مبرِّرات ومعطيات تكشف مظاهر كثيرة دالة على اختفاء العروبة والعرب. وفي فلسطين المحتلة، تزداد الأوضاع سوءاً، وتزداد مِحْنَة الفلسطينيين بانقسامهم من جهة، وبسياسات الحكم الذاتي وإجراءات أوهامه من جهة أخرى، إضافة إلى جبروت الاحتلال الصهيوني وعنصريته.

يعيش العرب اليوم حالة ذهولٍ قُصوى، يصعب فيها الإدراك الواضح لكل ما يجري

تزداد الأحوال العربية بؤساً عندما نُعايِن ما يجري داخل بعض البلدان العربية التي شملتها الثورات العربية، ففي سورية وليبيا واليمن، وبعد مِحَن التهجير واختراق الفلول الإرهابية ومليشيات القِوَى الدولية لهذه المجتمعات، وفي غياب الحدود الدنيا للتضامن العربي، نزداد مرةً أخرى تَأكُّداً من اختفاء العرب.. وعندما نُتابع ما يجري اليوم في تونس، وما يجري بين المغرب والجزائر، تزداد الصورة وضوحاً، تَكبُر صورة الاختفاء فتملأ الأعين وتَشُدُّ الأنفاس، تغيب أدوات الحوار وتحضر، في المقابل، لغة السلاح والحرب، لغةٌ تحضر فيها إسرائيل للانتصار لطرفٍ على حساب آخر، فمن يمكن أن يتحدّث اليوم عن العروبة وعن العرب؟

لم يتمكّن العرب من التصالح بعد مع ذواتهم ومع العالم من حولهم، ومنذ ما يزيد عن قرنين وهم يتحدّثون باللغة نفسها ويُرَكِّبون الأسئلة التي لم تعد مطروحة، لم يتخلصوا من أعباء الموروث وقيوده، على الرغم من كل صور المثاقفة التي حصلت في مجتمعاتهم تحت ضغط الحتميات التاريخية التي تساهم في تغذية المجتمعات والثقافات وتقويتهما وتطويرهما في التاريخ. ونتصوَّر أنه لا يمكن تجاوُز استقطابات سياسية كثيرة حاصلة اليوم، في تونس وفي لبنان والسودان والمغرب، على الرغم من الاختلافات العديدة بين المجتمعات والأنظمة السياسية التي ذكرنا، إلا أنها تظلّ مشدودةً إلى نظام مشترك في القيم، وخطأ التيارات السياسية الحداثية والمُحَافِظة يتمثل في نسيانهما معاً، حاجتنا الماسّة إلى ثورة ثقافية تمكِّننا من التخلص من قيود الماضي، والشروع في بناء مشروع في التقدم يرتبط بأسئلتنا الجديدة ومرجعياتنا المرتبطة بمختلف التحوُّلات الجارية في مجتمعاتنا وفي العالم، وبمختلف مساعينا الهادفة إلى الانخراط في امتلاك ثقافة عالمٍ نحن اليوم جزء منه.

C0DB4251-3777-48D1-B7F6-C33C00C7DAEB
كمال عبد اللطيف

محاضر في جامعات ومؤسسات بحث في المغرب وخارجه، عضو في لجان جوائز ثقافية في مراكز بحث وجامعات عربية. يساهم في الكتابة والتدريس الجامعي منذ السبعينيات، من مؤلفاته "درس العروي، في الدفاع عن الحداثة والتاريخ" و"الثورات العربية، تحديات جديدة ومعارك مرتقبة".