هل أخطأ تلفزيون سوريا؟
يتعلّق السؤال أعلاه بما إذا كان تلفزيون سوريا (المعارض) قد أخطأ في عرضه المسلسل السوري "كسر عضم 2" (أو السراديب) في موسم رمضان الحالي، بذريعة أن نجومَه والمشاركين فيه من الموالين للنظام، ويراه مشاهدون يمالئ السلطة. ومع موجة غضبٍ ذاعت بين سوريين كثيرين على التلفزيون بسبب هذا الأمر، ومع درايتنا بأن عريضة احتجاجٍ في هذا الخصوص تسلّمتها إدارة القناة، فإنّ أولَ القول هنا إنّ من حقّ كل سوري أن يجهر برأيه منتقداً التلفزيون الزميل لبثّه المسلسل، ولا أظنّ أن أصدقاءَنا فيه يرَوْن أنفسهم منزَّهين عن الوقوع في خطأ أو سوء تقديرٍ أو شيءٍ من هذا أو ذاك. ومع تسليم صاحب هذه الكلمات بأن ليس ثمّة جريرةٌ كبرى في أن يُرى المسلسل المذموم على شاشة تلفزيون سوريا الذي لا يحصُر صفتَه معارضاً فقط، وإنما يقدّم نفسه شاشةً لكل السوريين في كل مكان، ومع التأكيد هنا أن ليس في بثّ "كسر عظم" ما يخصِم من مكانة تلفزيون سوريا ولا مهنيّته ولا دوره ولا قيمة مُنجزه منذ انطلاقته في مارس/ آذار 2018 (في اسطنبول)، مع الأمريْن هذيْن (وربما غيرِهما أيضاً)، القصّة في موضع آخر تماماً، يتعلّق بأن رجعيين وسلطويين قد يبدعون فنوناً جميلة. والحادثُ في الدراما والسينما العربيتين أنك لو اعتنقتَ القناعة بأن أعمال الفنانين، المصطفّين مع أشواق الشعوب نحو الحرّية وثوراتها ضد الاستبداد والفساد، وحدَها ما عليك أن تُشاهدها، فإنك قد تجد نفسَك لا تشاهد إلا قليل القليل من الأعمال التلفزيونية والسينمائية.
اعتبر أصحابُ العريضة (نحو مائتين) أن من "المؤسف جدّاً أن تعرض قنواتٌ أُسّست باسم الثورة مسلسلاتٍ أبطالها من الموالين للنظام". ومن المُبهج حقّاً أن يُشهر هؤلاء السوريون اعتراضهم، ويتواصلوا مع قناةٍ تلفزيونيةٍ سورية في شأن لم يستحسنوه منها، فذلك، في محْملٍ ظاهر، يدلّ على غيرتِهم على هذه القناة التي صار لها رصيدُها من الاحترام والتقدير بين جمهورها من السوريين في بلدهم وفي الشتات، وبين متابعيها العرب غير القليلين أيضاً. ويحسن ألّا يغيب عن البال أن من بين كثيرٍ رائقٍ اعتدْنا مشاهدَته على الشاشة نفسها تقارير مصوّرة ونقاشات موسّعة واستطلاعات ومعالجات ومحاورات في شؤون الدراما السورية وأحوال فنانيها والعاملين فيها، لم توفّر أيّاً من صنّاع هذه الدراما ونجومها المصفّقين المصطفّين مع نظام الإستبداد في دمشق. بل ظلّ الجهدُ المستمرّ في كشف مباذل هؤلاء وسَقطاتهم واحداً من هموم المحطّة وموضع رصدٍ وانتباه ملحوظيْن فيها، الأمر الذي مثّل مصدَر إزعاجٍ مقلقٍ لهؤلاء الذين انقطعوا لمديح النظام وطغيانه وللتجرّو على الثوّار والمستضعفين. ومن ذلك ما لقيه الممثلون السوريون الذين استقبلهم بشّار الأسد، قبل أيام، وأدار معهم "حواراً" عن "الإنتاج الدرامي"، وتبادل معهم، وهم نحو 15 ممثلاً ومخرجاً (بينهم تيّم الحسن بالمناسبة)، الرأي في "التحدّيات التي تعترض الدراما السورية بشقّيها الفني والإنتاجي". وكان شديد الابتذال ما قرأناه لبعض هؤلاء من تدويناتٍ وتغريداتٍ عن "اليوم المميّز" لهم، كما كتبت سوزان نجم الدين، التي أفرطت في إشهار غِبطتها لأن "سيادة الرئيس" استقبلها مع زملائها، بوجِهه "الباسم المشرق".
تطبيلٌ من هذا الصنف للنظام القاتل ورئيسِه في قصر المهاجرين، ممن يُفترَض أنهم يعملون في الإبداع وأجناس الجمال والمتعة، أمرٌ لا ريب يستنفر الغضب، وبذلك يصير مُسوّغاً ما لدى جمهورٍ عريضٍ من السوريين من سخطٍ واسعٍ على نجومٍ كثيرين لطالما أسعدوهم بأدائهم في أعمالهم، التي تعلّق بعضُها بقضايا الإنسان وحقوقه في الحرية والكرامة والعدالة. بل ويصير مفهوماً أن "يزعل" هذا الجمهور من قناة تلفزيون يقدّرونها ويمحضونها الإعجاب والاحترام أن تعرِض مسلسلاتٍ لهؤلاء وأمثالهم. ولكن، مرّة أخرى (وليست أخيرة)، لا يعنيان، هذا الغضب وذاك الزعل، فيك أن تعتصم عن مشاهدة الدراما التي يشارك فيها بسّام كوسا ونادين تحسين بيك وعبّاس النوري (والمخرجة رشا شربتجي) وغيرهم، والأدعى أن يكون حافزك إلى الإزورار عن أعمالهم سوءُ سويّتها أو ضعفها. ولو راقت لك فنّياً وجماليا، ورأيت مضامين فيها تناصر التدليس والكذب على الناس، فلك أن تزاول النقد والانتقاد اللذيْن تريد، سيّما أن الدراما غالبا ما كانت من أدوات النظام في سورية في تلميع صورته، والتعمية على فساده وإفساده. ولكن، ليس من شكٍّ أن دريد لحام فنّانٌ كبير وبديع، وهو الذي أنفق عقوداً من عُمره في ممالأة نظامي الأسد الأب والابن.
سلفادور دالي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ (أمثلة) كانوا على غير ما نرضى من مواقف وقناعاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ. ولكن، ليس في وُسعنا إلا تقدير ما أبدعوا. وبالتأكيد، ليس المقصود هنا مشابهة الممثلين الطبّالين للأسد وطغيانه بأسماء عالية القيمة مثل هذه، غير أننا مدعوون إلى النظر إلى الأمر من زوايةٍ كهذه، ولكلّ منا أن يجتهد بشأن ما إذا أخطأ تلفزيون سوريا أو لم يخطئ، والأرجح أنه لم يخطئ.