هل أخطأت "حماس"؟

12 نوفمبر 2024
+ الخط -

بعد أكثر من عام على معركة طوفان الأقصى وتداعياتها في غزّة، والمنطقة عموماً، بما في ذلك المستجدّات الجارية في الساحة اللبنانية، يبدو السؤال عما إذا كانت حركة حماس قد أخطأت أم أصابت مشروعاً أمام التضحيات الكبيرة التي قدمها (ولا يزال) الشعب الفلسطيني في غزّة والضفة الغربية، ويقدمها الشعب اللبناني. كثيرة المقالات التي تناولت هذا السؤال، وتنوّعت في مواقفها وتبريراتها، لكن ما يسعى إليه هذا المقال لا يتجاوز فكرةَ توسيع العدسة في محاولةٍ لقراءة عناصرَ أخرى لا يمكن رصدها إن بقي المشهد محصوراً في إطارٍ جغرافي وسياسي محددَين.
منذ النكبة في العام 1948، القضية الفلسطينية جزءٌ من صراع جيوستراتيجي عالمي ترسم معالمَه في المقام الأول مصالحُ الغرب الرأسمالي الاقتصادية، التي تُحدِّد مساراتِ (وأدواتِ) السياسة الخارجية لهذه المنظومة برمّتها، على الرغم من تعميتها بشعارات برّاقة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان. وإذا كانت بريطانيا هي التي أعطت الصهيونية وعد بلفور، فإن الولايات المتحدة كانت (ولمّا تزل) الراعي والداعم الأكبر لكيان الاحتلال الإسرائيلي الذي نشأ أصلاً بعيداً من التفسير التاريخي الديني، ليلعب دوراً وظيفياً في منطقةٍ تشكّل واحدةً من أكثر مصادر الطاقة أهميةً، وتطلّ على ممرّات مائية تكفل استمرار المبادلات التجارية، أي ديمومة الغرب الرأسمالي وسيطرته. بيد أن التحوّلات الكبيرة التي جرت على مستوى الصراع الجيوستراتيجي، منذ تسعينيات القرن المنصرم، والدراسات عن اقتراب موعد نضوب الوقود الأحفوري في فترة لا تتجاوز العام 2050، ومع ظهور الغاز بديلاً نظيفاً يساعد في الحدّ من الاحتباس الحراري، استدعت هذه العوامل بمجموعها تبدّلات تكتيكية في شكل الصراع العالمي، مع بقاء ديمومة المصلحة الرأسمالية استراتيجيةً ثابتة.
انطلاقاً من هذا التوصيف الذي يعرفه الجميع، يمكن القول إن قطاع غزّة الصغير بات في مركز الصراع العالمي والشهوة الرأسمالية للحفاظ على مكاسبها، وكأنّ القدر كتب على هذا القطاع أن يكون مرّة أخرى تحت لعنة الجغرافيا، ولكن ليس لأنه جزء من أرض فلسطين التاريخية، بل لأنه مُهدَّد بتداعيات تناذر فرديناند ديليسبس ومتلازمة إيلات.
وما دام الشيء بالشيء يُذكَر، تعني كلمة "تناذر" في العربية توخي الحذر، فأنذر بعضُهم بعضاً شرّاً أي توخّوا الحذر من شرٍّ قد يقع استتباعاً لحدث ما. ألم يُكرّس ديليسبس (يُعزى الفضل إليه زوراً بشقّ قناة السويس، وليس إلى العمّال المصريين)، تناذراً جيوسياسياً وضع المنطقة بأكملها تحت المهداف الرأسمالي؟ ... لكن ومع التحوّلات الجديدة التي طاولت رقعة المصالح الاستراتيجية، وجدت كارتيلات الرأسمالية الكُبرى أن تناذر ديليسبس انتهى مفعوله، الأمر الذي يستدعي انزياحاً جغرافياً جديداً يتّفق مع عالم ما بعد حداثوي يختصر المسافات والكلفة المادّية في إطار مشروع الممرّ الهندي في مقابل طريق الحرير الصيني، لتدفع فلسطين مجدّداً ضريبة الموقع الجغرافي والجنون الأيديولوجي والسُعار الرأسمالي.

   كان الكيان الصهيوني سيهاجم غزّة ويعمل على تدميرها وتهجير سكّانها لو لم تبدأ "حماس" طوفان الأقصى

أما المتلازمة، فتعني مجموعةً من السمات أو الاختلالات التي يمكن التعرف إليها، وترتبط بمرض أو خلل معيّن لم يحدث بعد بالضرورة. يكفي أن نضع كلمةَ قناة إيلات أو "قناة بن غوريون" في محرّك البحث لنقرأ ما يقوله مسؤولون وخبراء في الكيان الصهيوني. يوضّح مهندسون إسرائيليون أن القناة ستكون منافسةً لقناة السويس، لأن المسافة بين إيلات والبحر المتوسّط ليست طويلةً، وأن قناة إيلات ستكون مختلفةً عن قناة السويس التي تجري فيها الملاحة باتجاه واحد فقط، ما يضطر السفن الداخلة للانتظار حتى تخرج السفن المتّجهة نحو المتوسّط، والعكس صحيح. أي أن الكيان الصهيوني يسعى إلى شقّ قناتَين مستقلّتَين تسمحان بالملاحة في الاتجاهين معاً، دخولاً وخروجاً، فضلاً عن أنها، بحسب المصادر ذاتها، تتمتّع بميزة أخرى تتمثّل في طبيعة الأرض الصخرية الصلبة التي تتحمّل أيّ ضغط خلافاً لقناة السويس التي تحتاج طبيعتها الرملية إلى صيانة دورية.
يكفي أن نلقي نظرةً على خريطة فلسطين المحتلّة لندرك ونفهم لماذا تسعى تلّ أبيب إلى تطوير ميناءي أسدود وحيفا ليتّسعا للسفن القادمة عبر القناة الجديدة، وليكونا الموقع الأثير للرأسمال الغربي لتأمين احتياجاته من مواد الطاقة، وتوفير فرص التبادل التجاري بكلفة أقلّ، بل ويفسّر ما يقصده بنيامين نتنياهو بعبارة "تغيير وجه الشرق الأوسط". لكن من يقف عائقاً جغرافياً وسياسياً وأمنياً أمام هذا المشروع؟ ... الجواب غزّة. أي أن الكيان الصهيوني كان سيهاجم غزّة ويعمل على تدميرها وتهجير سكّانها حتى لو لم تبدأ "حماس" عملية طوفان الأقصى، وكان الكيان سيختلق جبلاً من الذرائع ولو كان حجراً طائشاً أصاب بوابةَ مستوطنة في غلاف غزّة. فهل أخطأت "حماس"؟ ... بات الجواب واضحاً.