هزيمة المنتصر
أربكت المقاومة الأسطورية لحركة حماس الغرب، ودوّخت كبار استراتيجييه، وأحرجت الدولَ العربية التي خالفت توجّهات شعوبها حين سبحتْ ضدّ التيار وارتمت في أحضان الصهاينة تحت ذرائعَ واهيةٍ شَتّى، كما بعثرت مخططات دولة عربية كبرى كانت هي الأخرى على وشك التطبيع، لولا العملية المظفّرة في "7 أكتوبر" التي أصابت العدوّ الإسرائيلي في مقتل حين عفّرت في التراب غطرستَه المبنيّة على خرافة "الجيش الذي لا يقهر". كما أنّها أسهمت بشكل كبير في إسقاط قناع النفاق البغيض عن وجه الدول الأوروبية التي ظهرت على حقيقتها البشعة المتحيّزة تحيّزاً مطلقاً لإسرائيل، والمعادية عداءً صارخاً لكلّ ما له علاقة بالعروبة والإسلام. أما الولايات المتّحدة، فلا فائدة للحديث عن عدائها ما دامت هي حاضنة الطغيان، ومفرّخة المصائب، ومنتجة الكوارث، ومدمّرة الشعوب، و"طاعون العصر" كما وصفها الشاعر محمود درويش. وقد لعب الإعلام الغربي الذي تسيطر عليه اللوبيات الصهيونية دوراً فظيعاً في قلب الحقائق وتزوير الأحداث، لأجل تعبئة الرأي العام الغربي ضدّ العرب على العموم، والفلسطينيين على الخصوص.
وقد أدهشني، أنا المتابع لما يجري في قنوات الإعلام الفرنسي، ما شاهدته من فيض الحوارات والاستجوابات التي يتحامل فيها كبار الصحافيين على الشعب الفلسطيني وعلى مقاومته، وفي طليعتها حركة حماس. هو تحاملٌ لم أرَ نظيراً لفحشه وظلمه في الإعلام أبداً، إذ إنّ كلّ تلك القيم الإنسانية الجميلة التي كانت تتبجح بها فرنسا، من حقوق للإنسان وحرّية للتعبير وعدل وإخاء ومساواة، سقطت وتبدّدت كما يسقط ويتبدّد منديل ورقي في الماء، فأوّل ما يشدّ النظر ويُطرح في كلّ لقاء، مع الضيوف الذين تم اختيارهم على المقاس، التأكيد مسبقاً وبإصرار شديد على أنّ "حماس" حركة "إرهابية متوحّشة دمويّة" تعيش على قتل الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ، وتستعمل المدنيين العزّل كأذرع بشرية لبلوغ مراميها. لذا، فمن حقّ إسرائيل الدولة "الديمقراطية" و"المتحضّرة" أن تسعى إلى تنحيتها من فوق التراب خدمةً للبشرية جمعاء. ولكن رغم احترافية ذاك الإعلام المتحيّز والمشبوه، ورغم قدرته الخارقة على التزوير والتضليل ورصف الأكاذيب وتزويق المُنكر، فإنّ الحقيقة أخذت تتجلى للرأي العام العالمي واضحة كفلق الصبح، فعددٌ لا يستهان به من المواطنين والصحافيين الفرنسيين أخذوا يعيدون النظر في موالاتهم الاحتلال الإسرائيلي، بعدما طارت عن أعينهم غشاوة الدعاية الكاسحة، واستحكمت لديهم القناعة ببهتانها وبإفكها العظيمين.
وفي غمرة هذا اللغط المثير للتقزّز والغثيان، انتفض مُتدخّل فرنسي على المباشر، وأخذ مجالسيه على حين غِرَّةٍ حين فاجأهم بهذا الكلام المُفحِم والصادم: "أيها السادة، كفى، تعني كفى... منذ أن رأيتُ النور وأنا لا أسمع عن إسرائيل إلا الخير، ولا عن العرب إلا الشر، حتى ترسّخ في ذهني أن الغرب وحده مَنْ يحمل لواء الحضارة ومبادئ الخير والإنسانية والفضيلة، وأنّ ما عداه هم مجرّد حشرات بشرية لا حقّ لها في العيش على هذه البسيطة. ولكن السيل بلغ اليوم الزُّبَى لمّا صارت الحقيقة ساطعة تفقأُ حتى أعين العميان. لهذا، فلنتسلّح بشيء من الشجاعة والإنصاف، ولنسمّ الأشياء بمسمّياتها من دون وجل ولا تردّد، كي نقول بكلّ صراحة إنّ إسرائيل هي كيان إرهابي غاصب ومحتل، وما تقوم به أمام أنظار العالم المتفرّج هي حرب إبادة مخزية لم يعرف العالم لبشاعتها مثيلاً". وتابع المتحدّث: "لو أصابها (إسرائيل) عُشْر ما أصاب الفلسطينيين من تخريب وتقتيل، لكنا قد أحيينا الحروب الصليبية ولاندفعنا لاجتياح الشرق الأوسط بكلّ ما نملكه من أسلحة دمار شامل". الوعي بالحقيقة أخذ يتنامى يوماً بعد آخر، ويكتشف العالم بأسره وجه إسرائيل البشع.
الوعي بالحقيقة أخذ يتنامى يوماً بعد آخر، ويكتشف العالم بأسره وجه إسرائيل البشع
ويكفي من باب الإيجاز فقط، أن نقتبس غيضاً من فيض، مما جاء على ألسنة بعض الشخصيات السياسية الأوروبية المرموقة وبعض الإعلاميين السويسريين والبلجيكيين والفرنسيين. فقد صدر أخيراً كتاب من حجم كبير أحدث ضجة كبرى، سميّ بـ "طوفان الأقصى.. هزيمة المنتصر" للكاتب جاك بو، وهو عقيد سويسري متقاعد عمل في أجهزة استخبارات بلده قبل أن يتولى مهامَّ كبيرةً في الأمم المتّحدة. وفي إحدى المحاضرات التي دُعي إليها، صرّح الكاتب إنه لا يميل لا إلى إسرائيل ولا إلى العرب، وإنّما يقوم بعمله الاستخباراتي الصرف، محاولاً بفضل ما جمعه من وثائق لا يرقى إليها خيط من الشك، وجُلّها يأتي من إسرائيل نفسها، أن يقدّم لأصحاب القرار من جهة، وللقرّاء من جهة أخرى، الحقيقة عارية كما هي. وأوّل ما بدأ به هو التركيز على أنّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لا يبتدئ من 7 أكتوبر كما يوهم بذلك الإعلام الغربي، وإنّما منذ الاحتلال الصهيوني لأرض هي ليست أرضه. لذلك يرى أنّ عملية طوفان الأقصى مقاومة بحتة لا يجوز تسميتها بالإرهابية ما دامت تندرج في سلسلة العمليات التي يقوم بها شعب يكافح لاسترجاع أرضه المغتصبة. وإذا كان نتنياهو، يقول الكاتب، قد نعت الفلسطينيين بحيوانات بشرية فماذا نسميه هو الذي سحق غزّة بما فيها من عمران وبشر؟ ويقول الكاتب متعجّباً: "كيف للحيوانات البشرية أن يكون لها من الأخلاق الفاضلة والقيم الإنسانية ما يجعلها تحرص على حسن معاملة رهائنها بشهادة الرهائن أنفسهم أمام الإعلام المرئي والمسموع". ويؤكّد أنّه إذا كانت إسرائيل قد نجحت في تخريب غزّة في إطار حرب غير متكافئة صمدت فيها "حماس" صموداً خرافياً أمام إسرائيل، ومن يقف بجنبها من دول عظمى وأخرى عربية، فإنّها "خسرت سمعتها خسراناً مبيناً لا يمكن بعده أن ترفع رأسها أمام المجتمع الدولي إلا خاسئاً حسيراً".
وبغضّ النظر عن هذا الكاتب الموضوعي والنزيه، فإنّ هناك صحافيين آخرين، وشخصيات سياسية وثقافية وازنة أخرى، أمثال الوزير الأول الفرنسي الأسبق ووزير الخارجية، دومينيك دو فيلبان، ورئيس "فرنسا المتمرّدة"، جان لوك ميلانشون المرشّح لخوض الانتخابات الفرنسية، هم مَنْ ينقذون حقاً ماء وجه فرنسا. فهل نشهد بداية النهاية للكيان الصهيوني الغاشم؟