"هرشة" عربية طويلة

08 ابريل 2023
+ الخط -

يحكي مسلسل "الهرشة السابعة" عن مسألة حسّاسة جدا في العلاقة الزوجية بعد الإنجاب وبعد سنوات من الزواج، فآدم ونادين (محمد شاهين وأمينة خليل) زوجان لديهما طفلان توأمان، تزوّجا بعد علاقة حب قديمة منذ كانا مراهقين، كل منهما هو" حب العمر" للآخر. ولكن هل يكفي هذا الحب لإنجاح الزواج؟ قصة المسلسل (من كتابة ورشة سرد بإشراف مريم نعوم وإخراج كريم الشناوي) عن هذا الموضوع تحديدا: كيف يمكن إنقاذ الحب في العلاقة الزوجية بعد سنوات من الزواج. حيث تتراكم المسؤوليات المعيشية والمادّية، الأمر الذي قد يطيح أي حبّ مهما كان عميقا وكبيرا، خصوصا حين يتجنّب الزوجان أو الشريكان المواجهة، فيراكمان الغضب والأسئلة والعتاب والمكاشفة تجنّبا للخصام، غير أن هذا التراكم يشبه قنبلة موقوتة، سينفجّر في لحظةٍ ما مطيحا الحياة الأسرية ومدمّرا الحب، وواضعا مستقبل الأبناء على حافّة الخطر في مجتمعاتٍ لديها أحكام أخلاقية تمييزية، ولا تتصف بالعدل، وليس لديها منظومة تتمكّن من رعاية الأطفال وتأهيلهم لفكرة انفصال الأبوين والعيش بين مكانين أو منزلين مختلفين.

لستُ بصدد الحديث عن المسلسل، الذي حظي بمتابعة عربية كبيرة، ويكاد يكون الأنجح هذا العام على مستوى الحكاية والإخراج والتمثيل البعيد تماما عن الافتعال والمبالغات، لصالح التجسيد العميق والمؤثّر حقا للانفعالات النفسية والغضب والحزن والحنّية والحب والمكابدات العاطفية والمعيشية. لكن ثمّة عدة نقاط مهمة طرحها العمل تتعلق بالمشكلات الاجتماعية واليومية، خصوصا في العلاقات العاطفية والزوجية.

نحمل، نحن البشر عموما، معنا في حياتنا اليومية إرثا كبيرا من ماضينا، والماضي ليس فقط ما يتعلق بنا شخصيا، بل بسلالةٍ مجتمعيةٍ قديمة، سوف نضعها على كاهل أبنائنا ما لم نتمكّن من الانتباه لها والتخفّف منها باكرا. نحن، بشخصياتنا الحالية نتاج مشكلات نفسية واجتماعية مركّبة كابدتها عائلاتنا وحملوها هم من عائلاتهم. وغالبا ما يظهر أثر هذا الإرث في اختياراتنا العاطفية، وفي علاقاتنا مع شركائنا ومع أولادنا لاحقا، فحين نحبّ أحدا ما نحن لا نحبّه لما فيه فقط من مزايا نراها جاذبة لنا، بل أيضا لأن اللاوعي يدفعنا نحوه؛ فمثلا حين تتربّى طفلة مع والدة مهجورة من الزوج/ الأب سوف تكبر هذه الطفلة وهي تحمل مظلومية والدتها. قد تحبّ وتتزوّج لكنها سوف تشعر دائما بأنها ضحية؛ وحين ينشآ طفل في بيت يعنف فيه الزوج/الأب زوجته وأطفاله فسوف يكبر هذا الطفل وهو يحمل استحقاقية والده الذكر، أو سوف يختار شريكة متسلطة كما لو كان يعوّض لوالدته عما قاسته.

على هذا المنوال، تمشي اختياراتنا العاطفية ونحن غير مدركين ما هي عليه؛ لماذا مثلا هناك فتيات يحببن الرجال الأكبر سنا بكثير؟ لماذا نتمسّك بشركاء يسبّبون لنا الألم والأذى، ونستميت في محاولات إرضائهم ولا نستطيع الانفصال عنهم؟ لماذا نخشى المواجهة وشرح ما يزعجنا مع شركائنا ونراكم ذلك كله حتى نصل إلى نقطة اللاحلّ؟ ومن هذه الأسئلة، يمكننا استنباط أخرى مشابهة تتعلق بعلاقتنا بالغة التركيب والاشتباك مع أولادنا. وهنا نحن ما زلنا نتحدّث عن البشر العاديين في علاقات طبيعية ومعتادة من دون التطرّق للمختلين والمجرمين والمغتصبين ... إلخ.

في العالم المتقدّم، هناك مختصّون نفسيون، يتم اللجوء إليهم في حالات الخلاف والطلاق والانفصال، وهناك مراكز لإعادة تأهيل الأطفال المنسحبين الذين تعرّضهم مشكلات الأسر لاضطرابات نفسية، وهناك طبٌّ نفسي يعالج من دون إطلاق الأحكام الأخلاقية والدينية على محتاجي العلاج. هناك منظومةٌ كاملةٌ صحية واجتماعية بات بمقدورها التخفيف من تكثيف اللاوعي وتأثيره على التفاصيل اليومية والعلاقة مع الآخرين، سيما الأكثر قربا. رغم أن شيئا كهذا لا ينتهي بسهولة، وسيبقى البشر دائما أسرى ما نشأوا عليه، وأسرى طبقات اللاوعي الذي يُراكم ذاكرة أجيال متتالية. لكن على الأقل هناك مساحات كبيرة من الحرية الشخصية والمجتمعية مستندة إلى حماية قانونية تمنح خياراتٍ متعدّدة للبشر لاختيار أشكال من الحياة بأقل الأضرار النفسية الممكنة.

احتج كثيرون من الجمهور العربي على مشهد في "الهرشة السابعة" يطلب فيه شريف (علي قاسم) من سلمى (أسماء جلال) أن يختبرا الحياة معا من دون زواج (المساكنة) كي يكتشفا هل يصلحان زوجين يمكنهما إنجاب أبناء أم لا. جاء الاحتجاج من منطق أن هذا مخالف للقيم المجتمعية والدينية، وهو "زنا ومعصية". وفي السياق نفسه، هناك أطباء نفسيون مشهورون في مصر يعالجون مرضاهم بدعوتهم إلى العودة إلي الدين وترك المعصية، ما يجعل الجميع في "الهرشة" نفسها.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.