هذه الصور منذ "إيما" أسماء الأسد
في الصورة الأكثر إيحاءً، لا تعانق أسماء الأخرس، زوجةُ رئيس النظام السوري، ابنها البكر حافظ الأسد، بعد حصوله أخيرا على درجة الماجستير باختصاص الرياضيات البحتة من جامعة موسكو الحكومية، وإنما تبتسم مغتبطةً، تميلُ برأسها وتسندُه أسفل كتف الشاب الصغير، فوق القلب مباشرة، فتبدو الصورة وكأنها اجتزاء نفسيّ عميق من سيرة أسرة مطمئنة، فاحشة الثراء، وتحكم في آن بلداً مفلساً وضائعاً في تلابيب الصراعات الدولية الكبرى. تظهر سيدة النظام الأولى في تلك الصورة وهي ترتدي فستاناً يشبه في لونه وتصميمه ذاك الذي ارتدته الملكة رانيا العبد الله عام 2015، حين كانت في زيارة إلى المغرب برفقة زوجها الملك عبد الله الثاني.
ثمّة محاولاتٌ حقيقيةٌ لمقاربة تقاليد البلوتوقراطية بوصفها صيغةً سياسيةً لحكم الأثرياء، بإمكانها أن تسترخيَ داخل مفاصل الصورة البصرية التي تصدّرها أسرة الأسد الحاكمة إلى الملأ في كل المناسبات التي تستدعي تمظهرها البصريّ، وغالباً ما يحتكر مظهر زوجة بشار الأسد، والماركات العالمية التي تحرص على اقتنائها وارتدائها، معظم الترجمة البصرية لسلوك تلك البلوتوقراطية السورية الأشبه بعصابةٍ حاكمة، والتي تقبض على ما تبقّى من القرارين، السياسي والاقتصادي، ذاك الذي يمكن اعتباره مكمن القيمة عند حسابات النفوذين، الروسي والإيراني، داخل النظام السوري، وقد تركاه عمداً كمجال حيوي ضيّق تتحرّك في نطاقه طبقة الحكم في سورية، من دون أن يمنع ضيقه، أو ما اقتصر عليه، أسرةَ الأسد من أن تُمعن باستثماره إلى الحدود القصوى، ومن خلال الصورة البصرية التي تكافح الأسرة الحاكمة أن تظهر بها، نجد الكثير من الدلالات الحسّية التي تحتشد لإظهار الحكم على هيئة بلوتوقراطيّة برّاقة، بالرغم من أنه يتطابق أكثر مع الشكل المافيوي للسلطة، والذي يختلس منه النظام طبيعة الحكم في سورية وشكله.
تريد تلك الصورة البصرية أن تُكابر في تزوير الحقيقة المافياوية للعائلة الحاكمة في سورية، واستبدالها بترجماتٍ بصريةٍ ركيكة تقارب التخمينات البلوتوقراطية الزائفة، وغير الموجودة واقعياً، وهذا نلمسُه بوفرةٍ داخل إيحاءات صورٍ عديدة ظهرت فيها أسماء الأسد واثقة مسترخية، إحداها داخل فستان من ماركة فالنتينو تجاوز سعره 3500 دولار، في أثناء حضورها مراسم العزاء بالعماد إبراهيم الصافي، نائب وزير الدفاع السوري الأسبق، وأحد رموز الحرس القديم للنظام الحاكم في سورية، وذلك في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.
تصرُّ الأسرة الحاكمة لسورية أن تظهر متألقةً ولامعة فوق أكداسٍ من الغبار تعلو شعباً اندثرت حياتُه على نحوٍ مؤكّد
قبل هذا، وفي شهر يوليو/ تموز من العام 2021، ظهرت سيدة النظام الأولى في أثناء تأدية زوجها اليمين الدستورية لولاية رئاسية رابعة، وهي ترتدي أحد فساتين مصمّم الأزياء السوري ذائع الصيت أسعد خليفة، الذي يملك داراً لتصميم الأزياء في حي الروضة بدمشق. وقد اعتادت فنانات مشهورات على اقتناء تصاميمه، من بينهنّ اللبنانية مايا دياب، والممثلة السورية هبة نور، والمغنّية فايا يونان، وغيرهنّ عديدات. كان فستان أسماء الأسد في تلك المناسبة جاذباً لاهتمام جمهورها المخدوع بذاك الاستعراض البلوتوقراطي البرّاق، وقد شاركت ظهورها ذاك منصاتٌ للتواصل الاجتماعي عديدة، اغتبطت بالذوق البديع لسيدة النظام الأولى.
لكن الصورة الباذخة ذات النفوذ البصري للأسرة التي تحكُم سورية لا تقتصر على الإطلالات ذات الطلاء المخملي لأسماء الأسد وحدها، وإنما قد تتعدّاها أحياناً لتصل إلى أبناء رئيس النظام، كالتي ظهرت فيها زين الأسد، ابنة بشّار، قبل ثلاث سنوات، وهي تنتعل حذاءً رياضياً من ماركة "كريستيان ديور" بلغ ثمنه حوالي 900 دولار، وقد ابتاعته من موسكو.
وفي صورة أخرى، تعود إلى شهر يونيو/ حزيران من العام 2020، تُظهر أبناء رئيس النظام السوري برفقة والديهما، وقد أحاط بهم قطيعٌ من الأغنام والماعز، بدت تصحيحاً بصرياً ونفسياً عميق القيمة لفكرة السلطة البلوتوقراطية، فلم تكن قادرةً على أيّ حال أن تُولِم لعين المتلقي سمة التواضع التي أرادت الأسرة تلميعها وتعليقها أمام الأعين المتفحّصة لها، وإنما كرّست بإيهاماتها الحسيّة، وبواقعيّتها المفرطة أيضاً، فكرة الشعب القطيع المنتشر بعفويّةٍ حول حاكمه، حيث الأسرة الحاكمة التي تنظر بثباتٍ وحكمةٍ إلى عين الكاميرا، فيما ينظر القطيع إلى الكلأ النابت حوله بإفراط شديد، ويستعدّ لمضغه، وفي هذا محاكاة أمينة لطبيعة معادلة الحياة السياسية في سورية، وماهيّة حاكمها، وماهيّة شعبها أيضاً.
تحرص سيدة النظام الأولى على ظهورها المتتالي محاطةً بهالةٍ من الترف والأبّهة، فيما يخوضُ زوجها معركته الوجودية ضد الكون
غير أن الصورة الأكثر سخاءً في دلالاتها السيميائية كانت تلك التي جمعت كامل الأسرة الحاكمة لسورية، وقد انتشرت، أو تسرّبت إلى العامّة، على نحوٍ مقصود خلال شهر إبريل/ نيسان من هذا العام، بالتزامن مع عرض مسلسل "ابتسم أيّها الجنرال"، وقد أظهرت اصطفاف ثلاثة أجيال من عائلة الأسد في اجتماع طقسيّ بدا فريداً من نوعه، حيث يتوسّط الصورة رفعت الأسد، وفي الأعلى تظهر صورة كبيرة لمؤسّس النظام السوري حافظ الأسد تشبه الصور التي كانت تُظهره في الثمانينيات قائدا خالدا لهذه البلاد، لا يموت، وإلى يسار عمّ العائلة يظهر رئيس النظام الحالي، وإلى يمين رفعت يقف شقيق رأس النظام. كما تظهر الزوجات مجتمعات في الزاوية، ويظهر أبناء الرئيس، وابنة شقيقه إلى جوارها يقف ابن بُشرى الأسد وإلى جواره يظهر ابن رفعت. وهكذا، يتقاسمون قسطاً وافراً من الوداعة، والانسجام العضويّ الوظيفيّ، وكأنهم يردّون على الصورة التي أظهرهم بها المسلسل أسرة منقسمة، متناحرة على السلطة، تجيد بذل كل المؤامرات للاحتفاظ بها، والتي وصلت إلى حدّ التعامل مع العدو ومحالفته لضمان بقاء هذا النسل في الحكم.
وعندما تفيض الصور الخلابة لعائلة الأسد، سيما صور سيّدة النظام الأولى، يبدو الأمر وكأنه مجازفة خاسرة محمولة إلى سوق مفلس لتداول الأسهم والسندات المالية، إذ يعيش السوريون منذ عقد أزمةً وجودية يصعب اقتيادها إلى كلماتٍ مناسبةٍ لوصفها. ومع ذلك، تصرُّ الأسرة الحاكمة لسورية أن تظهر متألقةً ولامعة فوق أكداسٍ من الغبار تعلو شعباً اندثرت حياتُه على نحوٍ مؤكّد، مخالفةً بذلك وصفة التداري من الضوء واستثارة حضوره، كما كانت تفعل أنيسة مخلوف، زوجة حافظ الأسد، وهي تتجنّب لقاء عدسات الكاميرات إن مرّت من أمامها، أو تحتجب عن تأدية مناسك الظهور الاجتماعي وبهرجاته المحتملة، وربما كان آخر ظهور لها يوم وفاة ابنها باسل في ديسمبر/ كانون الأول من عام 1994، أو ربما تراها ظهرت لاحقاً في مناسبة أخرى يتيمة، رعايتها فعاليات المؤتمر النسائي العام سنة 2006 في مكتبة الأسد بدمشق.
قد لا تتوافق معايير البيئة التي أنشأت أنيسة مخلوف، وهي بيئة تقليدية أنتجها الريف السوري الساحلي المحافظ، مع معايير البيئة التي ظهرت منها أسماء الأخرس، زوجة رئيس النظام الحالي، إذ أمضت جلَّ حياتها في بريطانيا، ولطالما كانت تُعرف باسم "إيما" هناك، خصوصا في مدرسة كوينز كوليج، حيث تلقّت دراستها الأولى، وكذلك في "كينغز كوليج" التي أكملت فيها دراسة علوم الكومبيوتر، وأيضاً حين عملت في مصرف "جي بي مورغان" ذائع الصيت، قبل أن تتزوّج من بشّار الأسد في عام 2000، ويصير اسمُها بعد ذاك التاريخ أسماء الأسد. لكن هذا كله لا يبدو مبرّراً مغرياً ومنسجماً مع إصرار سيدة النظام الأولى على ظهورها المتتالي محاطةً بهالةٍ من الترف والأبّهة، في وقت يخوضُ فيه زوجها معركته الوجودية ضد الكون بما فيه!! وهذا يخالف أيضاً دلالات تلك الصورة التي انبعثت إلى يوميات السوريين خلال يونيو/ تموز عام 2021، حين كان رأس النظام وزوجته وأبناؤه يأكلون "الشاورما" مساءً في حي الميدان الدمشقي، كان ظهوراً مستفزّاً لجمهور النظام الموالي، المصدّقِ أحاجي الحرب الكونية عليه، والذي يشقُّ طريقه اليومي إلى ضفّة الشبع بصعوبة بالغة، يحاول فعل ذلك بلا كهرباء أو تدفئة، أو ربما يحاول فعل ذلك بحضور مزيد من صور السيدة "إيما"، حتى وإن كانت محاطةً بخرافٍ كثيرة لا تتفوّه.