هذه الرسائل الخطيرة في"كسر عضم 2"
في المستوى السّياسي، يمكن التمييز بين نظام ديمقراطي وآخر غير ديمقراطي من خلال النظر في آليّة الوصول إلى ذروة السلطة وممارستها. لكنّ المستوى السياسي يمثّل أيضاً ذروة الاختلاف بين ثقافة الحرّية والديمقراطيّة، والاستبداد ثقافةً وممارسةً، في حين ثمّة مستوى ثقافي يمكن من خلاله التعبير عن نظام بشّار الأسد مثلاً، بوصفه خطاب سلطة غير شرعيّة تتحكّم بالسوريين، ويمكن من خلال المستوى الثّقافي أيضاً، التعبير عن ثورة الحرية بوصفها خطاباً مناهضاً لتلك السّلطة وثقافتها. يمكننا التعرّف إلى المؤيّدين والمعارضين سياسيّاً عبر ملاحظة الاصطفافات المُعلنة، لكن هل يمكن التمييز بين عمل ثقافي وآخر بالطريقة ذاتها؟
مع انطلاقة الثورة السورية، قدّم الفنان السوري المعارض سميح شقير عمله الفني "يا حيف"، العمل الذي لم تذكر كلماته "بشّار الأسد" بالاسم، ولم يكرّر هتاف السوريين: "الشّعب يريد إسقاط النظام"، بل استلهم المبدع من الشّارع توجّهه، واتّكأ على الموقف الإنساني لينتج مقولات ثقافيّة مناهضة للنظام الذي يدير ظهره للأعداء، ويقتل الشعب والأطفال. ومن ناحية المبدأ، ليس العمل الثقافي، الأدبي أو الفنّي، مخصّصاً لطرح الموقف السياسي بالطريقة التي يطرحها حزب أو تكتّل سياسي، وحين نكون في خضمّ صراع قيمي، كما هو حال الشعب السوري مع نظامه الحاكم، فإنّ العمل الثقافي يغدو ميداناً لممارسة الأطروحات الثقافيّة، فالنظام القائم على حكم النخبة المنتهية إلى "القيادة الحكيمة"، سيطرح غالباً ثقافة تبرّر نموذج حكمه السّياسي، منها تمجيد شخصيّة البطل الفرد في الأعمال الدراميّة، ذلك البطل الذي في وجوده يكون الخير كلّه، وفي غيابه يكون الشرّ كلّه، فـ"البطل" هو المعادل الموضوعيّ لـ"القيادة الحكيمة".
ويمكن للنظام الحاكم في سورية، بقانون الطوارئ منذ 1962، ثمّ بقانون مكافحة الإرهاب منذ 2012، وبذريعتي حماية الشعب والاستقرار، أن يُروّج عبر أعمال ثقافية نمطاً ثقافيّاً يُبرّر "المنع بذريعة الحماية"، فيظهر كلّ من تجاوز المانع، في العمل الثقافي، نادماً وخاسراً، فيصبح المزاج الشعبي أكثر تقبّلاً لممارسات سلطة منع الناس من حقوقهم الأساسيّة والمدنيّة، بذرائعَ حمايةٍ مختلفة.
كان النظام السوري يحتكر مساحة التأثير في الرأي العام، إلّا أنّ انتشار الفضائيّات والمواقع الإلكترونية كسر ذلك الاحتكار. ومع انطلاق الثورة، بدأت مشاريع إعلاميّة مُعارِضَة، نضجت وتحتّم عليها منازلة النظام، ثقافيّاً، في السّاحة السوريّة خصوصاً، وكسر الحواجز المادية والثقافيّة التي صنعها النظام لأسر جزء من سورية والسوريين، ونبذ جزئهما الآخر، ما جعل من تلك المشاريع الإعلاميّة المُعارِضَة أمام مسؤوليّة صياغة خطاب ثقافي سوري مسؤول أمام الرأي العام بوصفه الجهة المُوجّهَة.
أفقد العرض تهمة "الإرهاب" مصداقيّتها، التهمة التي تمسّك بها، ولا يزال، رأس النظام لتبرير إجرامه
أخيراً، انتهى بثّ حلقات "كسر عضم 2" على "تلفزيون سوريا" (وتلفزيون العربي 2)، بعد اعتراض ناشطين معارضين لنظام الأسد على بثّ حلقات مُسلسل وصفوه بـ"المؤيّد" على قناة مُعارِضَة. وأثار المُعْتَرِضُون اتهامات طاولت المحطّة وإدارتها، المعروفتين بانحيازهما لثورة السوريين، حتى كاد بعض الرأي العام يتوهّم وصول المُعْتَرِضِين إلى اكتشاف حقائق خطيرة بشأن المسلسل قبل اكتمال عرض نصف حلقاته الثلاثين أو أنّهم تمكّنوا من فك "شيفرة" رسائلَ خطيرةٍ أرسلها النظام عبر المسلسل لاختراق المجتمع السوري الثائر، فأخذ المُعْتَرِضُون على عاتقهم مهمّة حماية السوريين من التعرّض لتلك الرسائل الخطيرة (!) وبعيداً عن النكاية، لعلّ بإمكاننا، بعد متابعة الحلقات كاملة، تقديم كلمة بشأن المعالجة الدرامية للمسألة القانونيّة في سورية، كما قدّم لها "كسر عضم 2". فالمسلسل يعالج فترة جاءت ما بعد "ثورة 2011"، حين هيمَن قانون الطوارئ، ثمّ مكافحة الإرهاب، على الشعب السوري والمؤسّسة القانونيّة طوال حكم نظام "المنع بذريعة الحماية". وتمثّلت سلطة الحماية واقعيّاً بالمؤسّستين العسكريّة والأمنيّة، ومن ثمّ، نشأ تحالف واقعي بين "الفساد والمال وسلطة الأجهزة الأمنيّة"، وكان مرجّحاً أن يلتفّ ذلك التّحالف فنيّاً أيضاً، حول الأجهزة الأمنيّة محوراً أولاً للفساد والسّلطة، لذا قد يصعب على السوريين تصديق أنّه يمكن لمحامٍ فاسد، في ظلّ غياب القانون، أن يتجاوز بفساده سلطة رجال المخابرات. وفي سياق المعالجة ذاتها تكرّرت في أثناء حلقات المسلسل جملة: "نريد تنظيف البلد" على لسان نموذج رجل الأمن الفاسد، وأكثر من مرّة على لسان نموذج رجلِ أمنٍ غير فاسد، ولعلّها جملة ثقافيّة شديدة الواقعيّة وكاشفةٌ، تؤكّد أنّ مبادرة تغيير الواقع لا تستند إلى قانون، بل إلى ممارسة أخلاقيّة (شريرة أو خيّرة) تختزلها مفردة "تنظيف".
في المقابل، قد يلاحظ المتابعُ لحلقات المسلسل جرأة الطرح، ليس في تناول قضايا الفساد فحسب، فهذه حيلة كانت أفرع المخابرات تسمح بمرورها في الأعمال الفنيّة لامتصاص الاحتقان الشعبي منذ كان الرأي العام جهة استهلاك فحسب، وإنّما كان الجديد في نقد مقولات أطلقها رأس النظام السّياسي، كالسخرية من "نظريّة المؤامرة"، التي طالما روّجها بشّار الأسد. كما قدّم المسلسل مشاهد تكشف أساليب أفرع المخابرات في اعتقال السوريين وتلفيق تهم الإرهاب لهم، فأفقد العرض تهمة "الإرهاب" مصداقيّتها، التهمة التي تمسّك بها، ولا يزال، رأس النظام لتبرير إجرامه طوال سنوات بحقّ الشّعب السوري. ولعلّ المسلسل، الذي لم يحصل على موافقة جهة رقابية تابعة للنظام، ولقي هجوماً من إعلاميين وجهات ثقافيّة مُقرّبة من النظام، لم يطرح، كما أشيع عنه من جهات محسوبة على الثّورة، "مساواة الجلّاد بالضحيّة"، بل اتّكأ العمل الدرامي على عتبة المشترك الإنساني بين الجلّاد (رجال المخابرات) والضحيّة (الشعب السوري) ليدين عبر مقاربات إنسانيّة ممارسات الجلّادين، ويكشف عمق الشخصيّة السّلطويّة "الذئبويّة"، لإدانتها كلّ مرّة.
العمل الثقافي، الأدبي أو الفنّي، ليس مخصّصاً لطرح الموقف السياسي بالطريقة التي يطرحها حزب أو تكتّل سياسي، بل ميدان لممارسة الأطروحات الثقافيّة
ولعلّ المسلسل لم يرتكب أيضاً ما وُصِفَ بـ"إهانة المجتمع السوري والمرأة السوريّة". على العكس تماماً، فالمتابع قد يلاحظ أن لا إمكانيّة لتوجيه إدانة إلى امرأة واحدة من شخصيّات العمل، حتى إلى نموذج المرأة التي تضطرّها أجهزة الاستخبارات إلى أن تقدّم جسدها سلعةً، بل حمّل المسلسل فساد رجل الأمن مسؤوليّة الانحراف الاجتماعي، ورصد نماذج ابتزاز رجل السلطة للمرأة، لإدانة السلطة ورجالها. إذاً، فالمسلسل لم يُبرّئ ساحة النظام، بل أشار صراحة على لسان إحدى الشخصيّات إلى "فساد منظومة السلطة" كلّها، وفضح أدوات المنظومة في التحكّم بمصائر السّوريين، وربط بين الإجرام ومسؤوليّة الجهة الأعلى في هرم السلطة، الجهة التي تُكرّر مقولة: "هازا البلد إلنا.. إلنا".
ولعلّ من أهم الرسائل التي تضمّنها العمل، رسالة فساد النموذج الأبوي للسلطة السّياسيّة، وتناقضها، إذ بدا رجال السلطة: "كنعان"، و"أبو مصطفى"، و"المقدم إبراهيم"، صادقين وأصحاب مصلحة حقيقيّة في ممارسة المنع لحماية أبنائهم الحقيقيين في المسلسل، فيما هم غيرُ صادقين وليسوا أصحاب مصلحة في ممارسة السلطة (المنع لحماية الشعب)، بل اقتضت مصلحتهم تصنيع المواد المخدّرة والاتّجار بها، وبيعها للشعب، وجاء على لسان شخصيّة مخابراتيّة ("أبو مريم"، في الحلقة الـ30) وهي تستعرض منتجها من المادة المخدّرة: "الله يخليلنا العميد".
هل هذه رسائل تَصُبُّ في مصلحة نظام الأسد؟