هذه الجيوش العربية
واحدٌ من أهم كشوفات "المؤشّر العربي" الذي يُنجزه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات سنوياً تعريفُنا بأن ثقة المواطن العربي بالجيش في بلاده، ثم بالمؤسّسات الأمنية (وأبرزها المخابرات)، أعلى بكثيرٍ من ثقته بالبرلمانات والقضاء والأحزاب. وتزداد نسب هذه الثقة عاما بعد عام في غير بلدٍ (السعودية والجزائر مثلا)، ويحدُث أن تتناقص عاماً بعد آخر في غير بلد (السودان وليبيا مثلا). والأرجح أن هذه الثقة تعود إلى أن للجيوش عموما مهابتها، وأن لا صلة لها بالناس، كما أن مهمّتها سامية في الوجدان العام، حماية الوطن وحدوده، فضلا عن أن أحوال الجنود والمجنّدين في الجيوش تدعو إلى التعاطف، وهم، في الأصل، من أبناء الشعب المحدودي الدخل والفقراء. غير أنّ هذه الصورة الذائعة للجيوش، عربيا، والتي قد يعود إليها منسوب الثقة الشعبي المرتفع بالمؤسّسة العسكرية عموما، لا تخصّ قادة الجيوش وكبار الجنرالات، والذين يحوزون امتيازاتٍ كبرى، وهم على صلةٍ بصانع القرار السياسي، ومن خلالهم يمكن تشريح علاقة الجيوش بالسياسة. ويحدُث أن يكون هؤلاء هم أصحاب القرار الفعليين في الدولة وبناء مؤسّساتها وتشكيل نظام الحكم. ويحدُث، طبعاً، أن يبرَز منهم أصحاب الطموح إلى احتكار السلطة واحتلال رئاسة الدولة، في انقلاباتٍ عسكريةٍ لا يعدمون العثور على أسبابٍ لها، يسوّقونها أمام الشعوب. وغالبا ما تكون حماية الدولة من انهيارٍ ما في مقدّمة ما يفتعلونها من أقوال. ولم يحدُث عربيا، باستثناء النادر عبد الرحمن سوار الذهب في السودان، أن غادر ضابطٌ من هؤلاء كرسيّ الرئيس. وقد سُمع من وزير الدفاع السابق رئيس المخابرات الحربية، في مصر، اللواء عبد الفتاح السيسي، لمّا وثب إلى السلطة في انقلابٍ مشهود، كثيرٌ من مثل ذلك الكلام، ثم أجرى التعديلات على دستورٍ هيأه ناسٌ من طرفِه، ليجوز له البقاء رئيسا أكثر من عقدين، وهو الذي تخلّى عن جزيرتين مصريّتين.
تأخُذُنا الحربُ الشرسة بين عسكر السودان إلى درس الجيوش العربية، وما تؤدّيه فعلا في بلادِها. وأول ما يحتاجه أمرٌ كهذا التخفّف من الهالة التي تقترب من القداسة، والتي نخلعها على جيوش بلادنا (أو معظمها)، فيما لا يلقى الناظر في "منجزات" هذه الجيوش انتصاراتٍ لها يُعتدّ بها، على أي عدوّ أو عدوان. وباستثناء أداء طيّب للجيش المصري في حرب 1973، لا تُصادف غير بطولاتٍ لجيوش عربيةٍ في اعتداءاتٍ على شعوبها، أو في خوضها حروبا أهلية وبينية، أو مساندة أنظمة صديقة هنا أو هناك. لقد تفكّك أكثر من جيشٍ عربي، وبانت هشاشته، في غير واقعةٍ، على الرغم من استهلاكه موازناتٍ ضخمة على شراء الأسلحة وتكديسها. وفي البال أن قوة إريترية أمكن لها في 1995 أن تحتلّ أرخبيل حنيش اليمني، بدعوى تنازعٍ عليه، ما دلّ على أن هذا الجيش الذي خرج منه العقيد علي عبد الله صالح رئيسا ليس مؤهّلا لحماية البلاد. ثم شوهد هذا الجيش في جولات قتالٍ ضد الحوثيين المسلّحين لم يمكنه حسمها، وذلك قبل أن نرى قطاعاتٍ منه تصطفّ مع المخلوع صالح، لمّا تحالفَ مع الحوثيين الذين أمسكوا صنعاء، ضد الدولة وجيشها ومؤسّساتها، قبل أن يقتلوه.
وليس الجيش السوري الذي أراد حافظ الأسد أن يبني فيه توازنا استراتيجيا (مع إسرائيل ربما؟) على غير تلك الصورة في اليمن، وإنْ مع وجوب التسليم بوجود ضبّاط وجنودٍ شُجعانٍ فيه، وعلى أعلى درجات الوطنية. رأيناه في لبنان تسقُط له في أربع ساعات 26 طائرة حربية، عدا عن مروحياتٍ، في 1982، في عدوانٍ إسرائيليٍّ. وليس في أرشيف هذا الجيش طوال سنوات وجودِه في البلد الجار، منذ 1976 إلى 2005، واقعة أنزل بها هزيمةً في إسرائيل التي صارت اعتداءاتُها شبه يوميةٍ على مواقع له في الداخل السوري نفسِه. أما بطولات سرايا الدفاع في مجزرة حماة، وهي التي تسلّحت جيدا بقيادة رفعت الأسد الذي جاء إلى باله مرّة أن يخلع أخاه، فقد واصلت مثلَها ضد انتفاضة السوريين الفرقة الرابعة بقيادة ماهر الأسد.
وعندما يصبح الجيش المصري قوةً اقتصادية مستقلة واستثمارية كبرى في البلاد، وينتج مواد غذائية واستهلاكية بلا عدد، وينقّب عن الذهب، ويدير مشاريع ويحوز عطاءاتٍ كبرى، فإن هذا يستثير سؤالا عمّا إذا كان هذا كله من مهمّات الجيوش ووظائفها. وعندما يُرى الجيش الليبي على هشاشةٍ محزنة، في انقسامه ومواجهاته بين كتائبه، إبّان الثورة على القذافي. وعندما نحدّق في الشاشات قدّامنا هذه الأيام لنتابع الجاري في السودان.. يصير مطلوبا أن يُعاد النظر في صورة الجيوش العربية في أفهامنا ومداركنا.