هذا المديح لعدوان أميركي

08 ابريل 2017

من صور أميركية لإطلاق الصواريخ على مطار الشعيرات (7/4/2017/Getty)

+ الخط -
مآثر وفيرةٌ موصوفةٌ أنجزها نظام بشار الأسد وأبيه في سورية. من جديدها، أخيراً، أنه جعل مجرم حربٍ، اسمه بنيامين نتنياهو، يبيع للعالم تعاطفه مع أطفال سوريين قتلى بغاز السارين في خان شيخون. وكان المذكور، وأقرانه في تل أبيب، قد طلبوا من العالم عدم الحكي عن حقوق لاجئين فلسطينيين يقيمون في غير بلدٍ منذ عقود، فيما أمام الأنظار مئات آلاف السوريين صيّرهم نظام دمشق لاجئين ونازحين في مطارح بلا عددٍ في العالم. أما أحدث هذه المآثر، فإن النظام المتحدّث عنه أقام لدى غالبيةٍ عظمى من السوريين شعوراً توطّن فيهم بعداء كثير تجاه جيش بلادهم، من فرط ما أعمله هذا الجيش من قتلٍ فيهم وتهديمٍ لحواضرهم، فلم يشعروا، الليلة قبل الماضية، بأن صواريخ توماهوك التي ضرب بها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، مطاراً عسكرياً سورياً ضربت مكاناً يخصّهم، وموقعاً لجيشٍ يمحضونه ولاءً وتثميناً لمكانته العالية في وطنهم. هذا من بعض الخراب الغزير الذي أحدثه نظام الأسد، ابنا وأبا، في ما يمكن تسميته العمران الوطني في سورية. وبذلك أنجز حاكما سورية، في أزيد من خمسة وأربعين عاماً، تنويعاً ثميناً في صدق قولة ابن خلدون العتيقة إن الظلم يؤذن بخراب العمران. 

المديح الذي رماه سوريون عديدون للضربة الأميركية، معطوفاً على خشيتهم من أن تكون مجرّد قرصة أذن، فلا يتم استكمالها بما يلزم للخلاص من الأسد، لا يعنيان أن وطنية هؤلاء ناقصة، أو أنهم خونة، فيما الذين أطنبوا في رفض العدوان الأميركي وطنيون جسورون نظيفون. لا أبداً، هذا توصيفٌ قاصرٌ وسطحي، فذلك المديح صدر عن خبرةٍ مديدةٍ بالوظيفة التي أنيطت بالطائرات الحربية في مطار الشعيرات وأمثاله، أي استهداف المشافي والمخابز والملاجئ والمباني الآهلة، من دون أن ترمي رصاصةً على أي عدو لسورية أو معتدٍ عليها. ليس هذا اتهاماً، أو افتراء معارضين مغرضين، وإنما هو تجربةٌ معايَنةٌ، ضاعفت من اختلالٍ مريعٍ في وجهة "الوطنية السورية" التي ظلت تنأى، بعد 1973 ربما، عن أيٍّ من مؤسّسات الدولة السورية، وهي الدولة التي ما قصّرت في بناء المدارس والجامعات والإدارات، لا لشيء إلا لتبقى وتدوم، قوةً قاهرةً وعنيفةً قاسيةً، لا على المجال العام فحسب، بل أيضاً على الروح الفردية السورية المنتهكَة، منذ ما قبل مقتلة حماة في 1982 وصولاً إلى خان شيخون في 2017.
ليوفّر الشاطرون إيّاهم كل كلامهم عن تنسيق ترامب مع إسرائيل قبل ضرب "الشعيرات"، وعن حساباته الأميركية المحضة بشأن روسيا وإيران، والتي جعلته يُقدم على فعلته هذه. نعرف هذا كله وأكثر، ففي وسع رئيس أميركا أن ينام هانئاً، سواء قُتل أطفالٌ في خان شيخون خنقاً بالسارين أو تمويتاً ببراميل متفجرة. لا مدعاة لإنفاق الوقت في تفاصحٍ مثل هذا، بل لهؤلاء أن نعرّفهم، نحن لا غيرُنا، أنّ ترامب ناشد سلفه باراك أوباما، بعد موقعة الغوطة الكيماوية في صيف 2013، بأن لا يُبادر إلى فعل عسكري في سورية، وها هو الآن "يتمرجل" عليه. بديهيٌّ أن لا تشغلنا عواطف رئيس الولايات المتحدة، الموسمية أو الطارئة (والكاذبة ربما) تجاه المخنوقين في جوار إدلب. وبديهيٌّ أن تعبئ الفضائيات العربية ساعاتٍ بأقوال ضيوفها عن "رسائل" هذا الرئيس إلى موسكو وطهران، في مفاجأته في ريف حمص. الأهم أن نفحص الطّور المقلق الذي تعبر إليه "الوطنية السورية"، بعد أن أراد الحكم في دمشق سورية أن تكون سورية الأسد، فاستنزف بذلك هذه الوطنية عقوداً، وهو يُجهز على مواطنة السوريين، بمواظبةٍ ودأبٍ موصوفيْن، عندما بنى دولة الأمن والبوليس، ودولة الشّقاق السنيّ العلويّ المكتوم، ودولة الاقتداء بالنهج الإسرائيلي في التعامل مع الرعايا المحتلين، التصفية والقتل والاعتقال في أقبية التعذيب أو الامتثال والخضوع والخرس، وأخيراً دولة الكيماوي والسارين.. في عمرانٍ مثل هذا، ستتنوع مظاهر الخراب الوفير، فلا تصير وطنيّة السوريين كما التي لدى مواطني الدول الطبيعية، وبذلك يكون عادياً جداً أن يحظى عدوانٌ أميركي (تسميته الكلاسيكية الصحيحة في العلوم السياسية التقليدية) بـ59 صاروخ توماهوك على مطار عسكري سوري بكل هذا الترحيب والمديح السوريين، بل وأيضاً بطلب المزيد إنْ أمكن.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.