نهاية يفغيني بريغوجين المتوقّعة
لم يخطئ البيت الأبيض عندما قال إنه ليس متفاجئاً من مقتل زعيم مرتزقة فاغنر، يفغيني بريغوجين. فعلياً، كانت تصفيته السيناريو الأكثر تسليماً به منذ تمرّده قبل شهرين على سيد الكرملين. لم يكن من المنتظر أن شخصاً مثل فلاديمير بوتين يمكن أن يغفر لأيٍّ من رجالاته التجرؤ على تحدّيه علانية، كما فعل بريغوجين الذي انتقل من كونه يُعرّف "طبّاخ بوتين" إلى عدوّه. ولذلك، لا داعي لانتظار أي لجنة تحقيق بشأن كيفية سقوط طائرته، إذ إن خلاصاتها بلا جدوى أمام النتيجة النهائية.
بالنسبة إلى كثر، كتب زعيم "فاغنر" المقتول مصيره بنفسه. لكن هل كان فعلاً يتوقع الأمر، أم كان غارقاً في وهم فرط القوة، وبأنه الرقم الصعب الذي لن يستطيع بوتين التخلّص منه، وهو ما قاد الأخير إلى التفاوض معه، والتوصل إلى تفاهماتٍ من قبيل عدم محاكمة أيٍّ من عناصر "فاغنر"، والسماح لهم بالانضمام إلى الجيش الروسي، أو الخروج نحو بيلاروسيا، قبل أن يتبيّن أنها اتفاقات سينتهي مفعولها مع اللحظة التي اختارها بوتين للانقضاض على بريغوجين.
أياً تكن اعتبارات برويغوجين أو حساباته، فإنها أصبحت من الماضي. المرحلة المقبلة التي تلي تصفيته هي المهمّة، وعلى أكثر من صعيد. أولاً، مصير مجموعة فاغنر، إذ لم يتخلّص بوتين من طبّاخه الذي جرّعه السم، بل أيضاً من مساعدين للأخير أيضاً، بما في ذلك أوتكين، المساعد الأمين الذي يُنسب إليه تأسيس المجموعة ومنحها اسمها. حتى أمس الخميس، كانت منصّات محسوبة على "فاغنر" تتوعد بالانتقام لقتل زعيمها ومن معه، لكن ذلك لا يعني أن هذه النبرة ستدوم طويلاً. بوتين، ومن خلفه في المؤسّسة العسكرية، معنيون بالإبقاء على وجود المرتزقة أو من تسميهم وزارة الدفاع عناصر الشركات العسكرية الخاصة. لكن بصيغة مختلفة عن التي كانت قائمة في عهد بريغوجين. وكلما تمّت المسارعة في إعادة ضبط العلاقة وتنظيم المسألة، كان ذلك لمصلحة الكرملين، بما يتيح له التفرّغ لمخطّطاته، سواء في أوكرانيا التي تغرق روسيا في مستنقع حربها من 18 شهراً، أو في أكثر من بؤرة ساخنة، خصوصاً في أفريقيا والشرق الأوسط، حيث يتوزّع عناصر من "فاغنر". ويُرجّح أن المرتزقة الذين تهرّبوا من توقيع العقود التي كانت وزارة الدفاع تطالب بها سينصاعون أخيراً، من دون استبعاد سيناريوهات بقاء مجموعات متمرّدة، لكنها لن تشكل خطراً لا يمكن التعامل معه على القيادة الروسية.
ثانياً، ستتجه الأنظار إلى التغييرات التي ستُجرى في مناصب عسكرية مهمة، لتصفية إرث بريغوجين. ولا يمكن فصل التسريبات عن إقالة قائد القوات الجوية، سيرغي سوروفيكين، الذي كان قد اختفى عن الأنظار منذ تمرّد "فاغنر" عن خبر تصفية بريغوجين بعدها بساعات. من غير المستبعد أن يطلق بوتين "حملة تطهير" جديدة، تطاول كل من يشكّك في ولائه المطلق له أو وجود صلة له بتمرّد يونيو، إذ لا تزال تساؤلاتٌ تُطرح عن حقيقة ما كان يدور داخل الأجهزة الروسية بمختلف أفرعها، والذي سمح بتمرّد بريغوجين، وتسيير عناصره ودبّاباته نحو العاصمة وحتى السيطرة على مقر قيادة الجيش في مدينة روستوف، أو دون التي تُقاد منها الحرب على أوكرانيا من دون أيّ رصاصة. ولكن ذلك كله لن يكون كافياً لإعادة ما خسره بوتين، بعدما كشف تمرّد زعيم "فاغنر" عن جوانب ضعف عدة لدى سيّد الكرملين، حتى إن بعضهم ذهب يومها إلى اعتبار أنه تعرّض للإذلال على نحو أكبر مما واجهه عقب تحطّم طموحاته بغزو أوكرانيا سريعاً وإسقاط نظام الحكم في كييف وتنصيب قيادة موالية له.
يسمح التخلّص من بريغوجين لبوتين راهناً بالقول إنه ليس هناك من هو قادرٌ على منازعته السلطة، وإن الموت مصير من يفكّر في ذلك، لكن قدرة الرئيس الروسي على إدامة وضعٍ كهذا تبقى رهن تطوّرات المرحلة المقبلة.