نهايات مؤجّلة
غادر الروائي والقاصّ، وزير الثقافة الفلسطينية، عاطف أبو سيف، قطاع غزّة، أخيرا، بعد أن أمضى 84 يوما في أتون العدوان الإسرائيلي على أهل القطاع. وهناك دوّن يوميّاته التي نشر "العربي الجديد" أجزاء منها في عدّة حلقات، كما نشرَت نصوصا منها صحفٌ ودورياتٌ أجنبية، قبل أن تَصدُرَ قريبا في كتاب. ... في توقّفه في مصر، قبل وصوله إلى رام الله، كتب مقاله التالي، متأمّلا في التجربة الخاصّة التي عايش فيها الموت والتهديم الكثيريْن بين أهله وناسه.
خرجتُ؟ ... يصعبُ القول إنني خرجتُ، إذ ما زلتُ أشعرُ أنني هناك، ما زلتُ في خيمتي أصحو في الصباح بعد أرق الليل، أنتظر المساء حتى أوقد ناراً أطهو عليها بعض الطعام لي ولابني ياسر، ثم تبدأ السهرة الليلية قبل أن ننام في انتظار الصباح. الصباح الذي لم يصل بعد، والليل الذي لم ينقشع عن ضوْءٍ نرى فيه خطواتنا في ذلك النفق المظلم.
كان ذلك ظهيرة اليوم الرابع والثمانين للحرب. بدا الأمر مثل حلمٍ آخر من أحلام الحرب. لم يستغرق الامر أكثر من ساعتيْن، وكنت في الجانب المصري من الحدود. أصوات الانفجارات والدخان المتصاعد من خلف الأسلاك هناك، والأخيلة الكثيرة التي تتطاير أمام عينيّ كلها تقول إنني لم أفعل شيئاً أكثر من السير في طريق مجاور. كان أخي إبراهيم يلوّح لي من خلف الباب الكبير، ومتمنّياً لي السلامة، فيما كنت أطلب من الله فقط أن أعود فيكونوا كلهم موجودين. مرّ الزمن ومرّ الموت ومرّ الذين نحبّهم، وظلّ بعضهم تحت الركام، وظلت صرخات استغاثتهم تتردّد في آذاننا كنُذر شؤم حول ما ينتظرنا، ومرّت المدينة بعدما ابتلعها الخراب، ولم يبق منها شيء إلا ذكريات من عاشوا فيها عنها، ومرّ كل شيء، وظلّ الحزن قائماً، وظلّ الوجع يغلي في مرجل الروح، وظل الدمع متحجّراً في العيون.
لا شيء يمكن أن يكفي ثمناً لكل ما حدث إلا حقيقة واحدة، إنه الوطن. لا شيء آخر. هوْل الكارثة وفداحة الخسائر وحجم الدمار، لا شيء يمكن أن يُقنع أمّا فقدت خمسة أطفال، أو كهلا فقد بيته الذي بناه بعرق العمر، وصار عليه أن ينام بقية عمره في الشارع، أو تحت "عرّيشة" صغيرة سينصُبها قرب ركام البيت، لا شيء يمكن أن يُقنِعه أن ثمّة ثمنا يساوي ذلك كلّه، إلا أنه وطنه الذي لا يريد عنه بديلاً.
كلّما تذكّرتُ ذلك اليوم، حين اندلعت الحرب، تعلّمتُ أن الحياة قصّة لا يكتُبها أحد. فقط تسير أحداثُها ضمن نسقٍ غير معدٍّ مسبقاً. كنتُ أسبحُ في البحر. كانت الساعة السادسة، ثم بعد أقلّ من نصف ساعة بدأ كل شيء. كان يمكن أن يكون هذا مشهداً عابراً في الذاكرة، أو أنه يمكن لرومانسيٍّ حالم أن يتخيّل أصوات الانفجارات موسيقى خلفيّة للحظة سعادةٍ عارمةٍ بوداع صيفٍ قائظ، وداعٍ تحوّل إلى ممشى طويل وتجربة جارفة.
ستظلّ هذه الحرب الأكثر بشاعة في تاريخنا بعد النكبة، وستظلّ تذكّرنا أن نكبة جديدة كانت قاب قوسين، لو نزحنا أكثر إلى الجنوب وعبرنا الحدود
مرّت أربعة وثمانون يوماً كأنها دهرٌ وكأنها ثانية. إذا أبحرتُ في الماضي، أتأمّل تفاصيلها، غرقت في الألم، وتُهتُ في فيافي القلق، و"تبقبشت" قدماي من السير في طرقاتٍ خشنة، وإذا أغمضتُ عيني لأفتحهما كأنني أقنع نفسي أنني أفيق من كابوسٍ مرّ للتوّ أمام رموش عينيّ، وأنا بين الصحو والنوم. ... هل حدثَ هذا فعلاً؟
في الطريق من رفح إلى بورسعيد، كنتُ كلما رأيت كومة حجارة أنتفض، كأنني أنظُر إلى بيتٍ دمّرته الطائرات، وأفرك عينيّ حتى أفيق من غيبوبة الفراق، ولا أنزلق في رحابة النجاة. ... هل حقّاً السلامة غنيمة؟ مثلما تقول أمّهاتنا. ربما وربما لا. فلا أحد ينجو بشكلٍ كامل. يظل جزءٌ منا معلقاً هناك حيث كنّا. مثلاً، حين كنتُ أفكّر بوالدي الذي بقي في مخيّم جباليا فيما كنت أنا في الخيمة في رفح، وعلى ما في هذا التفكير من قلقٍ ووجع، إلا أن حقيقة أنني في خيمة، وصوت الطائرات يهدُر فوق رأسي، والسماء قد تسقُط علينا حِمماً في أي لحظة. أما الآن، وانا أجلسُ في غرفةٍ في فندقٍ في بورسعيد، أحاول أن أعود إلى فكرة النوم الطبيعية، لا أتوقّف عن التفكير بالرجل السبعيني الذي هُدم بيتُه، ويعيش في مركز إيواء، ولا يجد ما يأكله. الأمر يختلف. في الحالة الأولى، كنتُ هناك، وكنتُ جزءاً من الصورة الكبيرة التي تمتلئ بوشم الحزن، أما الآن فأنا مُشاهدٌ من بعيد، يحاول أن يلمس وجه الصورة.
بأي معنىً، إذا السلامة غنيمة؟ أليست سرقة قبسٍ من الشمس نقمة، وتفّاحة المعرفة نقمة، وتجربتي تلك نقمةٌ أيضاً؟ أي غنيمةٍ، وأنت تنظرُ في كفّ يدك، فترى التفاصيل التي يعيشها من تركتَهم هناك؟ وأيّ غنيمةٍ يمكن أن تُنسيك رائحة الدّخان المتصاعد في الصباح، حين تفيق الخيام من النوم؟ وأيّ غنيمةٍ، وأنت تجهل أخبار من تحبّ، وستمضي ساعاتٍ وأنت تحاول أن تتّصل بهم، أو بمن يمكن أن يُخبرك عنهم، من دون جدوى، فتموتُ في اللحظة ألف مرّة. وأيّ غنيمةٍ، ونفسُك تسألُك: "لمَ رحلْت؟".
ثمّة قائمة طويلة من الأهل والأصدقاء ما زالوا في عالم الغيب الذي لا أعرف
الناس نيامٌ إذا ماتوا أفاقوا. بعد الحرب، سنفيق على عالمنا الجديد. العالم الذي خذلنا فيه الجميع. العالم الذي تُركنا فيه نموت ونُذبح، والعالم لا يطلُب من الجزار شيئاً إلا أن يذبحنا بهدوء. سنفيقُ على غزّة الجديدة التي لم تعد موجودة، ولم تعد كل تلك الأماكن التي شكّلت ذاكراتنا عن المدينة قائمة. سنفيقُ على حقيقة أننا لم نعد نحن، وأن علينا أن نواجه وحيديْن قدَرنا بعد أن تبدأ الحرب الجديدة مع نهاية الحرب. الحربُ تبدأ بعد الحرب، وحياتُنا تبدأ بعد حياتنا. ستظلّ هذه الحرب الأكثر بشاعة في تاريخنا بعد النكبة، وستظلّ تذكّرنا أن نكبة جديدة كانت قاب قوسين، لو نزحنا أكثر إلى الجنوب وعبرنا الحدود. عبرنا وادي غزّة، لكن هذا ظلّ داخل الجغرافيا. لكن، أيضاً، الجميع يتناسى أن أغلب من هُجّروا خلال النكبة ظلّوا داخل الجغرافيا، لكنها الجغرافيا التي قسّمتها الحرب، وحرَست حدودَها الجيوش العربية، فصارت أمراً آخر. ومع ذلك، بقينا في البلاد وبقيت البلاد لنا وستظلّ لنا. كل أكاذيب العالم لا تغيّر حقيقة واحدة، وكل مكياج الدعاية لا يبدّل شكلاً حقيقياً.
أفكّر في "أبو عاطف"، الرجل الذي أعطاني اسمي، ومنحتُه اسمَه بعد أن وُلدتُ فصار يكنّى بي. تذكّرتُ أن أكثر من أسبوع لم نسمع أخباراً عنه، وأن آخر أخبارٍ عنه لم تكن مريحةً، فهو لم يكن يتمكّن من المشي من سوء التغذية، وبسبب عدم تناول الأدوية. تذكّرتُ أن الرجل الذي بلغ الرابعة والسبعين قد لا يستطيع مغادرة المكان الذي يقيم فيه في المخيّم بعد هدم بيتِه، إذا ما سقطت قذيفة على هذا المكان. تذكّرتُ أنه قد يكون عاجزاً عن الهرب، أو قد ييأس من فكرة البحث عن النجاة. تذكّرتُ أنه لا بد يفكّر أن الرحلة قد اقتربت، وأننا في مرحلة معيّنة ندرك أن علينا أن نُغمض أعيننا، وننظر إلى القدر الذي ينتظرنا. تذكّرتُ أنني لا أعرف شيئاً عن أختي أسماء، ولا بناتِها الخمس، ولا عن أخي خليل وزوجته، ولا عن أخي موسى الذي التحق بالجامعة قبل أسابيع من الحرب. تذكّرتُ أن ثمّة قائمة طويلة من الأهل والأصدقاء ما زالوا في عالم الغيب الذي لا أعرف.
حين خرجتُ من المخيّم، التفتُّ إلى الخيمة التي نمتُ فيها أسابيع. وقفتُ قليلاً كأني أتأمّل معالمها، وأتأمّل خطواتي التي ما زالت تترُك أثرها على عتبتها، وبقايا الرمل على طرف الفرشة. هل شعرتُ ببعض الحزن أنني مغادر؟ هل سأشتاقُ للخيمة؟ لا أحد يشتاقُ للألم، ولا أحد يشتاقُ للحظات الوجع التي عاشها، ولا يمكن لي أن أحنّ لرحلتي المؤلمة في عبور وادي غزّة من الشمال إلى الجنوب. تبادْلنا القبلات والسلامات والوعود بلقاءاتٍ قادمةٍ بعد انتهاء الحرب، وعودا لا يمكن لنا أن نكون متيقّنين أننا سنفي بها، لكنها تظلّ واجبةً من موجبات الوداع. قبّلت يد خالتي نور. بكت وهي تقول لي أن أزورها، إذا رجعتُ بعد انتهاء الحرب.
بعد الحرب، سنفيق على عالمنا الجديد. العالم الذي خذلنا فيه الجميع. العالم الذي تُركنا فيه نموت ونُذبح، والعالم لا يطلب من الجزّار شيئاً إلا أن يذبحنا بهدوء
ما زلتُ هناك، وما زال صدى دقّات قلبي تخفق مع نيلون الخيمة، فيما تداعبُها الريح قبل أن تنشدّ وتحاول اقتلاعها. أستعيد أصوات الناس وتأوّهاتهم وشكواهم من ضيق الحال، وأستذكر أنهم باقون، لأن ثمّة شيئاً أكبر وأثمن. أفكّر في أخواتي وإخوتي الذين تركتُهم في الشمال، أو هؤلاء الذين ما زالوا في رفح. أفكّر في سكّان الخيام وتفاصيل الحياة والممرّات والطرقات التي مشيتُها كل يوم. أفكّر في طعم الشاي الذي كنت أصنعُه على الحطب. أفكّر في الغد، وفي الأشياء التي عليّ أن أنجزها حين أعود.
وحين أعود، قد لا تكون هناك عائلة كما كنت أعرفُها، وقد لا يكون أصدقاء كما كنتُ أعرفُهم. ستتغيّر أشياء كثيرة. لن يكون هناك بيت للعائلة لأنه تهدّم، ولن أزور أبي فيه، وأمضي معه ساعاتٍ نتحدّث، ونرمي بالزمن مثل "طابة" على جدار. لن تكون هناك "لمّة عيلة" قرب السلّم الخشبي للبيت. سيتغيّر نمط الحياة التي أتّبعها حين أزور غزّة، فلن أذهب إلى بيت الصحافة لقضاء نهارات السبت كلها مع بلال، ونتناول فطورَنا في الحديقة، ولن أستمع لسليم النفار يلقي عليّ آخر ما كتب من الشعر، ونحن نتسامر في منزل عائد أبو سمرة في مساءات الجمعة، كما في كل مرّة، ولن أقف مع أحمد خلّة، نتحدّث في شؤون الحارة ونميمتها المفضلة. ولن أذهب مع زوجتي هناء لزيارة أختها هدى، فلم تعد هناك هدى ولا شيء. ذهب البيت وذهبت هدى، كما ذهبت غزّة. غزّة ليست بحاجةٍ لإعادة إعمار، بل لإعادة بناء بالكامل. المدينة بحاجة لأن تقتدي بشعار بلديّتها "طائر العنقاء" الخرافي، وأن تنهض من الرماد. هل كان مصادفة اختيارُه شعاراً للبلدية؟
رأيتُ الموتى يمشون، ورأيت الأحياء يموتون. رأيتُ الأحلام تتساقط من على بقايا مخدّات الراحلين، ورأيتُ الطفل يبحثً عن أمّه، ورأيتُ أحرف صراخه "ماااااماااا" تتطاير فوق الرّكام. رأيتُ الأشجار تدوس ثمارَها الجرّافات، فيصير عصيراً تشربه الأرض بلا متعة. ورأيتُ كيف يسقُط الموتُ من السقف على الجمال النائم. ورأيتُ الطفلة تصرُخ في لعبتها العروسة، تطلب منها أن تعود إلى الحياة، كأنها كانت حيّة قبل ذلك، ورأيتُ قبلات المحبّين معلقةً على الشرفات تسقُط صرعى. رأيتُ بنايات المدينة تموتُ بنايةً بناية، ورأيتُ الموت يزحف نحو الحدائق. رأيتُ ذلك كلّه، وما زال بعد خمسة وثمانين يوماً يحدُث كل يوم، ويزيدُ يوماً بعد آخر. وفي كل صباح، أظن أن هذا جنونٌ لا بد أن يتوقّف، ومثل بقية سكّان غزّة أقول لنفسي: ليتَه كان مجرّد كابوسٍ آخر في ليلة شتاءٍ باردة.
غزّة ليست بحاجة لإعادة إعمار، بل لإعادة بناء بالكامل. المدينة بحاجة لأن تقتدي بشعار بلديّتها "طائر العنقاء" الخرافي
وأعرف كيف يشعر المرءُ حين يرجو الموت أن يكون صديقه، حتى يقتله برحمةٍ ونعومةٍ، وبلا عذابٍ، وحتى يترك أعضاءه، ولا يمزّقها فيتعرّف إليه الناس بعد موته، وحتى لا يشعر بالألم، وحتى لا يتحسّر على جمال وجهه ورقّة شعره، بعد أن يتفرّقوا كلٌّ في اتجاه. أعرف أن الطريق إلى النجاة لا بد أن تكون مؤلمةً أكثر من الخطر الذي نهرُب منه، لكننا نحاول، وأعرف أن المرء لا يعيش لأنه اختار البقاء، وأن نجاته ليست إلا خطأ بسيطاً لم يقصده الموتُ في رحلة صيده التي يقوم بها في المدينة. وأعرفُ أن أول ما يفكّر فيه المرءُ حين ينجو هو كيف سينجو المرّة المقبلة.
شعرتُ بلمسة الموت بيديه، تحاولان سحبي من قميصي. وشعرتُ بطعم الفقد، ورأيتُ الدموع تتحجّر في العيون، وشعرتُ بمرارة الحياة، وكيف لا يعود مهمّا إذا ما عشتُ أو مُتّ، فأنت تفكّر فقط في مَن تحبّ، ولا تريدُ لهم أن يتعذّبوا بعد رحيلك ويشتاقون لك. وشعرتُ كيف تتبخّر الأحلام حين تتوقّف عن الحلم، وحين يدرك المرء أن الأحلام ليست أكثر من حياةٍ خياليةٍ نعيشها في وقت آخر. وشعرتُ أن الفرق بين الظلام والنور ليس أكثر من تفسير، وليس إحساساً مختلفاً للمعنى.
الآن، أفكّر وأنا أجلسُ وحيداً، فيما ياسر يغطّ في نومٍ عميق، الأطول ربّما منذ بداية الحرب، وإني أنظر إلى الطريق، كأنني أعودُ إلى هناك.