نكبة ونكسة منعطف تاريخي في مسار النهضة العربية
متابعة الحديث عن المنعطفات التاريخية في الذاكرة العربية والإسلامية وعلاقة ذلك جوهريا بمشاريع النهضة من المسائل ذات الأهمية؛ ومن دافعية الاهتمام الإيجابي بتلك المنعطفات تبصّر توقيت حدوثها ومآلاتها وتأثيرها على التفكير في مسائل التجديد والنهوض والإصلاح وبالجملة عمليات التغيير. أما من آثارها السلبية أن تمرّ تلك المنعطفات نتذكّرها كل عام وربما بعد خمسين عاما أو مائة من دون قراءة ناقدة، قراءة الاعتبار والاستثمار والاستفادة من ذلك في التوجّه نحو المستقبل والتفكير في شروط النهضة وتدبّر الأمور التي تتعلق بالأزمة أو بالنكبة أو بالنكسة أو الفشل والعجز أو الهزيمة والتقهقر. وعوضا عن قراءتي الاعتبار والاستثمار، تنجرّ فئة بعد فئة إلى التبرير والالتفاف، أو يلوذ بعضهم، خصوصا من أهل السلطة الذين ارتكبوا أخطاء فادحة ضمن ما يمكن تسميتها ثقافة الإنكار والاستنكار، فنعود إلى المربع الأول في استمراء الهزائم واستمرارها؛ نتعايش معها وربما ننتظر الأخريات مثيلاتها، ونمارس بدلا من ذلك حالة استقطابٍ مريبة ومريعة؛ كلٌّ يلقي المسؤولية على ما يظن أنه خصمه الفكري؛ ويتوه الاعتبار أو المراجعة، وتختفي ضمن مؤامرة الصمت الجماعي عن الحقيقة والاستحقاق "قل هو من عند أنفسكم".
لا تزال المنعطفات التاريخية حُبلى بالنماذج المؤثّرة في طريق النهوض والتغيير والإصلاح العربي، ومن أهمّها وأخطرها النكبة العربية في طبعتيها الأولى 1948 والثانية 1967، وقد كانت لهما تأثيرات كبيرة ومهمة. وهناك مساهمات كثيرة في هذا السياق، ومن أهمها المؤتمر الذي عقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة عام 2017، والذي تناول "حرب حزيران 1967 ... مسارات الحرب وتداعياتها"، كما هو عنوان الكتاب الذي أصدره المركز في 2020، وضم أعمال المؤتمر الذي جاء بمناسبة مرور 50 عاما على الحرب، وهي فترة كافية ومناسبة لتحليل حدثٍ مهم بمثل هذا المستوى. وقد حاول المؤتمر الإلمام بالأبعاد المختلفة للموضوع بصورة شاملة، وإن كان ما يشغلنا في هذه المقالة هو القسم الأول من كتاب المؤتمر الذي تناول الحرب وتأثيرها في عملية النهوض والإصلاح والتغيير في العالم العربي، من خلال دراستي عزمي بشارة وعبد الوهاب الأفندي؛ وقد أضاءتا جوانب مختلفة مما نعتني به في الوقوف والتبصّر بتلك المنعطفات.
حرص المفكر المرموق عزمي بشارة على تناول سياقات ما قبل حرب 1967 وما بعدها، مؤكّدا أنه يرى أن يونيو/ حزيران 1967 هو تاريخ نشوء إسرائيل الحقيقي، وليس تاريخ النكبة الفلسطينية الذي اتخذته إسرائيل يوما لها، ويدلّل على رؤيته هذه بقوله إن حزيران هو ما أقنع كثيرين من يهود الشتات بأن إسرائيل باتت مشروعا مضمونا، وليس مجرّد مغامرة. وهنا لا يقلل بشارة من تأثير 1948، بل يذهب إلى أنها كانت من أهم دوافع الانقلابات العسكرية ضد النخب التقليدية والليبرالية التي حكمت الدول العربية بعد الاستقلال (مصر وسورية والعراق)، إلا أن تعظيمه تأثير حرب 1967 يعود إلى أنها فكّكت الطرف العربي في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وليس فقط تأثر الحركة القومية العربية وأنظمتها بالحرب، خصوصا بعد ظاهرة اتفاقات الصلح المنفرد المصري والأردني والفلسطيني مع الكيان الصهيوني. وبعد أن رصد أهمية الحدث وبيان تأثيره على الأفكار والنظم والأيديولوجيات العربية، توقف عند محاولة تلطيف اللفظ نفسه باعتباره "نكسة"، أي وكأن الأمر يتعلق بزلّة محزنة لأنظمة تسير عموما على طريق صحيح، وكذلك محاولة قلب الأنظمة العربية النتائج وترويج أن استمرار الأنظمة في الحكم يعدّ انتصارا، وأن ما حدث هو مجرّد احتلال للأرض فقط.
مسألة النهوض تحتاج مناهج تفكير قويمة ومناهج تدبير حكيمة ومناهج تغيير بصيرة ومناهج تأثير وفاعلية مكينة
كما رصد ردة الفعل المعارضة للأنظمة العربية، مؤكّدا أنها كانت أكثر استعدادا للاعتراف بالهزيمة. ولكن، لم يجر التوقف عندها، لأن البحث في الإخفاقات والتدقيق في ما حدث عسكريا وسياسيا كان من المحظورات، إضافة إلى انشغال المثقفين بعد الحرب بمسائل عدّة، مثل الصدمة الحضارية أو صدمة الحداثة التي تجدّدت، التي أحدثتها الحرب، وقارن بعضهم أثرها بأثر غزو نابليون مصر، كما انشغلوا بصدمة اكتشاف قوة المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية التي غالبا ما استخفّوا بها وعدّوها كيانا هشّا، إلا أن الأمر المهم الذي رصده بشارة، ويراد هنا التأكيد عليه، أن الهزيمة فتحت بابا لنقد التخلف والبحث عن أسبابه في الجهل، وانتشار الأمية أو في التبعية الاقتصادية أو في الدولة السلطانية، وفي الدين والتديّن، وصولا إلى سيكولوجيا الإنسان العربي وعقليته، وربما جيناته البيولوجية أو الثقافية، كما فتحت المجال واسعا أمام الوعظ بالحداثة والعقلانية والتقدّم، وكل أنصار تيار وجدوا الفرصة مناسبة لمهاجمة التيارات الأخرى، والتأكيد على أن توجّههم الفكري والسياسي كان الأكثر قدرةً على تفادي الهزيمة، وقدّم طرحا لما يجب أن يكون عليه الأمر في النقاشات، وهو أن الهزيمة لم تكن حتميةً، لا بسبب طبيعة حضارتنا و"تخلفنا"، ولا بسبب غياب العدالة الاجتماعية والديمقراطية، كان من الممكن أن نناقش مستوى أدائنا في الحرب، وما هي الأخطاء التي وقعت، وما العلاقة بين المستويين السياسي والعسكري في كل من مصر وسورية، وما العلاقة بين القدرات العسكرية وعملية صنع القرار السياسي، دراسة الدعاية الصهيونية وفشل الدعاية العربية.
من جانب آخر، ناقش الأكاديمي المحقق والمدقق عبد الوهاب الأفندي الخلل المركّب في تحليل أم الهزائم العربية. ومن هذا المنطلق، حرص على توصيف المسألة ووضعها في سياقاتها المناسبة، محاولا تحرير الحدث ووضعه في سياقه الملائم من خلال استعراض اتجاهات الرأي بشأنها من أنها كانت هزيمة لعمارة المجتمع العربي ولبنيته المادية والعقلية معا، كاشفة تأخّره السياسي والاقتصادي والتقني والثقافي، وهذا ما جعل منها هزيمة شاملة. ويتساءل الأفندي بشأن درجة الجدّية التي يجب أن نتعامل بها مع الكتابات والأدبيات التي أعقبت النكسة/ الحرب، معتبرا أن كثيرا منها جاء تحت تأثير الصدمة، واشتطّ وجاوز كثيرا حدود العقل والمنطق في أطروحاته، إلا أنه يعتبر ما يمكن التعويل عليه هو الأدبيّات التي جاءت بعد ذلك، خصوصا بعد أكتوبر/ تشرين الأول 1973. ويعتبر الكاتب أن أهمية الكتابات الصادرة أخيرا تتمثل في طرحها سؤال النهضة، ومعه سؤال المناعة ضد تغوّل الخارج.
المنعطفات التاريخية حُبلى بالنماذج المؤثّرة في طريق النهوض والتغيير والإصلاح العربي، ومن أهمها وأخطرها النكبة العربية في طبعتيها 1948 و1967
وأشار الأفندي إلى عدة دروس استخلصها من دراسته المراجعات والنقد عن كتابات النكسة/ النكبة/ الحرب/ الهزيمة، باتجاهاتها المختلفة، وهي أن التحليلات الخاصة بالحرب ابتعدت عن مناقشة القوّة والمنعة للدول التي تتكامل فيها مصادر القوة العسكرية مع الاقتصادية والسياسية والدبلوماسية والأخلاقية، وهي ما تُسهب فيه نظريات الأمن القومي المعروفة، كذلك انصرفت الانتقادات عن طبيعة الدولة القائمة وقتها وطريقة إدارتها وتغييب المواطنين عن أي مساهمةٍ في اتخاذ القرار واتباع نهج قمعي تجاه مبادرات المواطنين من اقتصادية ومدنية، كذلك عدم التدقيق في دور الجيش، وانصرافه عن مهنيّته إلى الانغماس في شؤون السياسة والاقتصاد بل والفن والثقافة أيضا، وإخضاعه لأولويات سياسات الشللية في النظام الحاكم. كانت هذه الانصرافية المشكلة، لأنها جسّدت، من ناحية، امتدادا لأيديولوجيات الأنظمة التي أوجدت الأزمة السياسية وجاءت بالهزيمة. ومن جهة أخرى، مثلت مساعي لتبرير الهزيمة وإيجاد العذر للأنظمة عبر توجيه الأنظار إلى قضايا هي أبعد ما تكون عن السبب المباشر للأزمة.
يخلُص الأفندي إلى أن الصدمة الكبرى لهزيمة حزيران كانت من المسافة الشاسعة بين التوقعات والحدث وبين الأحلام – الأوهام والواقع، فإسرائيل من حيث المساحة وعدد السكان لا تقارَن بأي دولة عربية. كما كانت الهزيمة نكسةً ليس فقط للدول المعنية وللعرب فحسب، بل لمفهوم التحرّر من الاستعمار أيضا وإشكالاته التي سبق وطرحها المفكرون في ذلك الوقت، أن شعوب الدول المستعمرة قد تتحوّل إلى فصيلة دون الإنسان أو ما يشبه الأنعام التي تُساس وتُساق إلى حيث يريد المالك من دون أن يكون لها رأي أو قول في مصيرها، كما طرح سؤال النهضة وأسئلة التحرّر من جديد.
هكذا تتبيّن لنا قيمة منعطف 1967 التاريخي ومكانته ودوره في نهضة أمتنا وشعوبنا، فالدرس الأساسي غياب الحلول الصحيحة للإشكالات الخطيرة المستمرّة في حياتنا وفي بلداننا، فالتحرّر من الاستبداد والفساد هما الطريق الحقيقي للنهوض وإعادة فهم مشكلاتنا وتحدّياتنا والوعي بمستقبل بلادنا وأمتنا. وثقافة الإنكار والاستنكار لن تُجدي طالما استمرأت التبرير والتمرير والتغرير والتزوير؛ فمسألة النهوض تحتاج مناهج تفكير قويمة ومناهج تدبير حكيمة ومناهج تغيير بصيرة ومناهج تأثير وفاعلية مكينة.