نقد العقل التّطبيعي

29 ديسمبر 2023
+ الخط -

عُرفت الفيلسوفة الأميركية (اليهوديّة) جوديث باتلر بعدّةِ كتب، منها "قوّة اللاعنف"، لتصبح من أهم الأصوات الدّاعية إلى نبذ العنف، بكل أشكاله ودوافعه. لكنّها في حرب غزّة انتقدت عنف إسرائيل لا عنف حركة حماس، عكس وجهة النظر الغربية. بل اعتبرته مبرَّراً بعد 75 سنة من القتل والتشريد. من يعرف باتلر، وهي من أهم الفلاسفة الأحياء في العالم، يعرف قيمة رأيها في حرب غزّة، "هذا التأطير العنصري للعنف المعاصر يلخّص التعارض الاستعماري"، لهذا "من دون تحقيق المساواة والعدالة، ومن دون إنهاء عنف الدولة الذي تمارسه إسرائيل التي تأسَّست هي نفسها على العنف، فإنَّه لا يمكن تصوُّر أيّ مستقبل، بما في ذلك مستقبل سلام حقيقيّ". 
رغم الازدواجية الغربية في النظر إلى العنف، فهو يظل بالفهم المسيّس إرهاباً كيفما كانت الجهة التي تقف خلفه. وحين تُطبّع دول من المنطقة العربية مع الإرهاب الإسرائيلي، هي التي عاصرت عن قرب مأساة الشعب الفلسطيني، على عكس دول العالم وشعوبها، فهي تضع يدها في يدٍ إرهابية تنهمر منها الدماء كشلال غزير. ماذا تحتاج هذه الدول أكثر من هذا لتخرج من التطبيع مع فكرة دولة عنصرية؟ 
طاول التطبيع مع الإرهاب دول الغرب التي لم تكن خلف قيام الدولة، مكتفيةً بأن تعترف بها كائنا قائما، بغضّ النّظر عن أساليب قيامها. لأنّها لا تقدر على فعل ما يعارض شعوراً أعمى بالذنب، بسبب جريمة ارتُكبت في حقّ المستوطنين الجدد، في مكان واحد في العالم، بينما كان البقية آمنين في دولهم، بل كانوا في وضع أفضل من بقية أهلها، فيهود المغرب كانوا يعيشون في بحبوحة لم يعرفها معظم المغاربة. 
لا تتردّد جوديث باتلر، وهي من أكثر الفلاسفة الأحياء الكبار، في دعم الفلسطينيين، فيما يتحرّج أكثرهم إنصافاً من إدانة إسرائيل وحدها، فيضعونها على حد سواء مع "حماس". بينما كانت باتلر من بين الكتاب الأميركيين اليهود الذي وجّهوا رسالة إلى جو بايدن، لوقف العدوان على غزّة. بل لم تخفّف موقفها بجملٍ فضفاضة، فحدّدت المجرم والضحية، وختمت بأنها تريد "عالماً يعارض التطبيع مع الحكم الاستعماريّ، ويدعم حقّ الفلسطينيّين في الحرية وتقرير المصير". 
يمتدّ العقل التطبيعي إلى الذين يلقون بما يحدُث في غزّة على أكتاف "حماس"، على أساس أن الوضع هناك لم يكن سيئا قبلها، وعليهم أن يكملوا حياتهم في سجن كبير معرّضون فيه للقتل والأسر، بلا سببٍ على الإطلاق. لكن نسب القتل، في نظرهم، أخفّ، وبالتالي، كان عليهم أن يتحمّلوا. يقدّم هذا المنطق لمحة عن العقل التطبيعي مع الظروف الكارثية التي يعيش فيها غير المحظوظين في العالم، الذين عليهم، حسب هذا العقل، أن يستسلموا لسوء حظهم، وأن يموتوا في صمتٍ من دون ضجيج، ينكّد على الصّامتين صمتهم. 
الآن، بعد أن خفت صوت منتقدي "حماس"، من باب لوم الضّحية على استفزاز القاتل الذي لا يحتاج سببا للقتل، وما يفعله الآن دليل على هويته الحقيقية ككيان طفيلي خُلق ليفترس ويقتل وينهب، وانتظارهم الفرصة المقبلة. وهم ينظرون إلى الموقف نظرة فرد أناني، يرى أن على الضحية أن يعيش فقط وينجو من الموت والإبادة التدريجية. ... مع العلم أن العالم يراجع بالتفصيل الجرائم التاريخية التي ارتكبتها الدول الاستعمارية، مثل جرائم فرنسا في الجزائر، ويصِمُ المثقفين والفلاسفة الذين كانوا في صفّ القاتل أو صمتوا عنه في أحسن الأحوال. وصرنا نكتشف جرائم ارتُكبت لم تقل عن "الهولوكوست" بشاعة، لكن العالم أصمّ أذنيه عنها، وكنّا نظنّ أنه لا يمكن أن تتكرّر في هذا الوقت، لأننا نرى كل شيء. لكننا، مع هذا التطبيع الشامل مع تقتيل شعب كامل، ندرك أن التاريخ سيتكرّر مهما اختلف الزمن، ومهما ادّعى الناس التحضر. وأن العقل التطبيعي ليس له مدّة صلاحية، ولا وجهاً يخجل عبرَه من نفسه. وليس أمامنا سوى مقاومته باعتناق الحقيقة والجهر بذلك.

596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج