نقاش مع أدونيس... غزّة والحداثة والإسلام السياسي
وقّع الشاعر أدونيس، في الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني)، إلى جانب مثقّفين عرب، بيانًا يدعو مثقفي الغرب إلى عدم "الخلط المتعمّد بين المقاومة والإرهاب"، لأن من شأن ذلك "تسويغ الاحتلال وتسفيه كل مقاومة مشروعة في التاريخ الحديث وتزوير مضمونها الوطني". بعد أيام ، ينفرد ببيان لا يلزم أحدا غيره، على ما جاء في مختتم عنوانه "نحو صورة جديدة للمسلمين وللإسلام"، نشرته صحيفة الأخبار البيروتية في 4 ديسمبر/كانون الأول الجاري، وجد فيه مناسبة لتصفية حساباته القديمة الجديدة مع "الإسلام السياسي"، حين يرى أن "المجاهدين" باسم الإسلام لا يزالون "يقدّمون الدّليل الدّامِغ على أنّ انهيار المسلمين كامِنٌ فيهم"، وفي "العقل الإسلاميّ السّائد" ذاته. وأنه لم يعُدْ، لدى "الإسلام المُتَعَثْمِن، أو المُتَأمْرِك"، إلّا "ثقافة الإبادة"، مشدّدًا أن "المقاومة المادّية" لا تكون "فعّالةً وخلاقةً من دون مقاومة فكريّة وأخلاقيّة "فعّالةً وخلّاقةً"، في معزل عن "المذهبية الدينية". فهل وقع شاعرُنا فيما حذّر منه البيان الأول؟
يتغافل أدونيس عن أنه إذا كان التواصل في التاريخ نسبيا، فإنه ليس هناك أيضًا قطيعة معرفية أو تاريخية تامة
يبدو أدونيس متخوّفًا من أن يكون نموذج "المقاومة الفلسطينية" نموذجًا إسلاميًا مضافًا، فيسأل: "إذاً، ما يكون، إسلاميّاً، الخطاب الفلسطينيّ اليوم؟ دفاعاً، ورؤيةً، ومشروعاً؟"، ذلك أن "العقل الإسلامي السائد"، كما يراه أدونيس، "القائد الأول" لواقع المسلمين "الأسود"، أي "الإسلام المُتَعَثْمِن في عباءة الإخوان المُسلِمين، فالخلافة في صورتها العثمانيّة دمَّرَت "الإسلامَ الحضاريّ ولم تُبْقِ منه إلّا الهيكل السّلطويّ والسّيف، ودمَّرت العرب على جميع المستويات... كما لم يفعل أيّ أجنبيٍّ أو أيُّ مُستعمِر"، باحثًا عن "الإسلام الحضاري"، الذي شذّ عنه نموذج اليوم، في خط تاريخي موصول صاعد، يبدأ عند الثنائي الممثّل بعمر بن الخطاب (العدالة) وعلي بن أبي طالب (الرؤية الروحية)، مرورًا بالأمويين والعباسيين، وانتهاء بالدولة الأموية في الأندلس، ليقيم لاحقا، بين هذا كله ولحظة الإمبراطورية العثمانية قطيعة تاريخية ومعرفية مطلقة. وهكذا، يقرأ أدونيس التاريخ بأثر رجعي، وانطلاقًا من نتائج مسبقة، متغافلًا عن أنه إذا كان التواصل في التاريخ نسبيا، فإنه ليس هناك أيضًا قطيعة معرفية أو تاريخية تامة. فمن جهةٍ، كانت لحظة قيام الإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر تتويجًا لما راكمته المجتمعات السياسية الإسلامية السابقة. ومن جهة أخرى، ابتكارًا فريدًا، فوصفها ألبرت حوراني بـ"روما العالم الإسلامي"، ونهضت في حينه على مؤسّسات حديثة تُدار بدقّة وعقلانية وبيروقراطية، فبرزت قوّةٌ صاعدةٌ أكثر كفاءةً من أي مملكة في أوروبا، وتوافر لها تجديدٌ ثقافيٌّ لا يقلّ عن نظيره في أثناء النهضة الإيطالية، كما تذهب كاثرين آرمسترونغ. كان ذلك قبل أن يقدّم الغرب نوعا جديدًا وفريدًا من الحضارة، تقوم على التقنية الحديثة وإعادة استثمار مستمرّة لرأس المال، الأمر الذي أخفق أمامه المجتمع القائم على الاقتصاد الزراعي. يمكن البحث عن أسبابٍ موضوعية لتدهور السلطنة العثمانية قبل القطع بأسباب ذاتية، تمثلت عند أدونيس في "عقلٍ سائد" وفي "إبقاء السّلطة في ارتباطٍ مباشرٍ باللّاهوت" في طغيانٍ مستمر، ذلك أن العلاقة بين الدين والفكر، وبين الدين والسياسة، ليست خاصيّة إسلامية فحسب، وإنما هي قضية عامة في كل المجتمعات، والتمييز بينها ممكن منهجيًا فقط، فطالما اكتسب الفعل السياسي على الأرض قوة بفضل جذوره الدينية. كان ذلك واقعا في مرحلة "الإسلام الحضاري"، ولا ينجو منه حتى أكثر المجتمعات علمنة وحداثة.
يخلط أدونيس، من دون وجه حقّ معرفي، بين ملوك بني أمية وخلفاء بني العباس
وإن كان بالإمكان الحديث عن لحظة تأسيسية في الفكر الإسلامي لعلاقةٍ بين الدين والسياسة، فعلينا العودة إلى الفترة العباسية، ليتبيّن كيف يخلط أدونيس، من دون وجه حقّ معرفي بين ملوك بني أمية وخلفاء بني العباس، فعلى الرغم من حفاظه على شكلية البيعة، أعلن معاوية بن أبي سفيان أنه "أول الملوك"، وتقلصت رقابة الوحي على التاريخ، لصالح طابع زمني للسلطة، واكتمل التنظير الأيديولوجي للخلافة في العصر العباسي، في خضم الصراع الأيديولوجي، فأمام محاولة التنظير الفقهي الشيعي حصر "حقّ الإمامة" في نسل علي بن أبي طالب من زوجه فاطمة، معلناً بذلك عدم شرعيّة خلافة بني العبّاس، تمسّك هؤلاء بالطابع الثيوقراطي لدولتهم. ولم يعد الهدف من التنظير حول الخلافة وحدة الأمة، بل وحدة المذهب الديني، وبدا التمسّك بالخلافة ووحدانيتها أمراً وجودياً، في ظلّ تعدّد مراكز الخلافة المنافسة لحكومة بغداد، وانحسر الموقف الراديكالي الملتزم بحقّ الرعيّة في العدل، لصالح وجوب السمع والطاعة، والصبر على جور السلطان. وبعد أن كانت كلمة سياسة تعني تحقيق مصلحة العباد من دون مخالفة مصلحة الخالق، ظهرت السياسة الشرعية في مقابل السياسة الوضعية، تعبيراً عن حاجةٍ إلى إعادة ضبط هذه بتلك. أصبح ذلك هو التوجّه العام لمؤسسة الإسلام الرسمي، وامتدّت آثارُه في أيامنا هذه. لم تتمرّد حركات الإسلام السياسي على السلطة السياسية وحسب، بل كذلك على سلطة المؤسّسة الدينية الرسمية التي تواطأت غالبا مع الأولى، فلم تحقّق مطلب العدل ولا الشفاء الروحي للجماهير المؤمنة. وإن تبنّى الإسلام السياسي "الخلافة" فأنه تبنّاها من منظوره الخاص، ولا معنى هنا لحديثٍ عن "إسلام معثمن"، ولا الخلط بين الدين وأنماط التديّن، أو بين الإسلام الرسمي والحركي، في خضم مغالطات تاريخية.
لا يُخبرنا أدونيس كيف يمكن لشعبٍ مقطّع الأوصال تحت الاحتلال أن يخوض مسارات العلمنة؟
وحين لا يجد أدونيس "فكراً دينيّاً إسلاميّاً حديثاً" يحيلنا على "فكر دينيّ يهوديّ حديث، وفكر مسيحيّ دينيّ حديث". لكن لنتذكّر، أيضًا، أن المسلمين خبروا الحداثة قوة غازية ارتبطت بالاستعمار والهيمنة الأجنبية، في وقتٍ عانوا فيه من هزيمة سياسية، وكان عليهم أن يتكيّفوا مع كلمة سر اسمها "الاستقلال"، الذي أرادوا انتزاعه من العثمانيين، قبل أن تحرمهم إياه رأسمالية أوروبا الحديثة. أما "الحداثة اليهودية" فتطابقت نهايتها مع "تأسيس دولة إسرائيل"، كما ذهبت حنة أرندت، فقوّضت الحداثة اليهودية اضطهادًا قديما، بتحويل "المُضطهَدين إلى مضطهِدين، والمظلومين إلى ظالمين". وتحوّلت "ذاكرة الهولوكوست إلى ما يشبه (الدين المدني) للعالم الغربي، ونموذجًا لازمًا وضروريًا لتقييم الفضائل الأخلاقية الديمقراطية، واختبارا تخضع له الدول التي ترغب في الاندماج في مؤسساته السياسية"، بحسب تعبير إنزو ترافيرسو.
يشدّد أدونيس على أن المستقبل هو للعلمانية، لكنه يغفل عن أن العلمانية، ومعها الحداثة، ليستا نماذج أحادية ناجزة نتلقّفها، بل تجارب معاشة، ولا يُخبرنا أدونيس كيف يمكن لشعب مقطّع الأوصال تحت الاحتلال أن يخوض مسارات العلمنة؟ وكيف يمكن للمحاصَر المحروم من أبسط مقوّمات الحياة، والحق فيها، أن يضع قدميه على مسار الحداثة؟ وفي وقتٍ يسود فيه اعتقاد بأن ما قبل "7 أكتوبر" ليس كما بعده، لا ينفكّ أدونيس يعتقد، كما قال في بيانه، أن ما قبل "11 سبتمبر" ليس كما بعده، ولا شكّ أن حركة حماس ليست "القاعدة" ولا "داعش"، لا فكرًا ولا نهجًا، مهما امتلك النقد للإسلام السياسي، ومن ضمنه حركة حماس، المشروعية، فمقابل هذه المشروعية لنقدٍ ممكن، ينبغي التأكيد أن الإسلام السياسي في فلسطين لم يكتسب مشروعيته في اللحظة الراهنة مصادفة، بل بعد أن أصبح حاملًا اجتماعيا للمقاومة الفلسطينية، التي تخلّى عنها الجميع في مواجهة "حداثة يهودية" على شكل دولة أبارتهايد، يقودُها متطرّفون مهووسون بقتل الفلسطيني واقتلاعه من جذوره، والذي لم تجدِ معه أشكال مقاومة أخرى، ولا القانون الدولي، ونتيجة فراغ أخلاقي يتجسّد إما بالتواطؤ مع القاتل أو بالصمت والتغاضي عن جرائمه.
سؤال الحداثة مشروع، لكنه سؤال تاريخي مفتوح، يتجاوز مساحة غزّة التي تضيق بالموت والحصار، ويستحضر إلى جانب معارك التحرّر معركة التحرير. والمذبحة في غزّة لا تنتظر.