نصف خطوة نحو وقف حرب السودان
بتوقيع تنسيقية القوى الديموقراطية والمدنية (تقدّم) مع قوات الدعم السريع إعلان أديس أبابا في 3 يناير/ كانون الثاني الحالي، تكون القوى المدنية قد وضعت الأساس التفاوضي لوقف الحرب، في انتظار قبول الجيش السوداني الخطوة. وقد جاء اللقاء بين "تقدم" وقائد "الدعم السريع"، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، استجابة لدعوة قدّمها رئيس التنسيقية، رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، لقائد الجيش، عبد الفتاح البرهان، وقائد الدعم السريع، استجاب لها الأخير بسرعة. بينما لم يصدُر ردٌّ رسمي من الجيش على الدعوة، ولا تعليق على إعلان أديس أبابا. إنما جاء التعليق من نائب رئيس مجلس السيادة مالك عقار، الذي هاجم الإعلان، ونفى وصول أي دعوة إلى "رئيس مجلس السيادة". كما انطلقت كتيبة الحرب الإلكترونية في الإعلام تحذّر قائد الجيش من لقاء "تقدّم"، حتى بلغ التحذير مرحلة التهديد بالانقلاب. بينما أعاد حمدوك دعوته قائد الجيش وحثه على قبولها بسرعة.
تبدو تحرّكات "تقدّم" ذات قبول إقليمي ودولي، خصوصاً ما يتعلق بمشاركة المدنيين في لقاء جيبوتي المؤجّل بين قائدي الجيش والدعم السريع. كما ذكر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في 1 يناير/ كانون الثاني الحالي، أن الولايات المتحدة تدعم وقف الحرب غير المشروط وتسليم الحكم للمدنيين. وهو ذات ما يخلص إليه إعلان أديس أبابا. لكن هذه الخطوة تظلّ نصف خطوة وغير مكتملة، إلا بقبول قائد الجيش لقاء القوى المدنية (تقدّم)، والاتفاق على إعلان مبادئ يكون أساساً للتفاوض في جيبوتي.
تثير قضية المحاسبة أولى المخاوف تجاه العملية التفاوضية، فلا يوجد سلام مستقرّ بلا محاسبة. ولا يجوز مكافأة طرفي الحرب باستمرار نفوذهما السياسي والاقتصادي في مستقبل البلاد. لكن تلك أمنية تبدو، للأسف، حتى هذه اللحظة، بعيدة المنال، فرغم الاتفاق على لجان وطنية وأخرى دولية للتحقيق في الانتهاكات وفي مسؤولية من أطلق الرصاصة الأولى لا يبدو ذلك مختلفاً كثيراً عن اتفاق الوثيقة الدستورية في 2019 الذي امتلأ بالنيات الحسنة، وأحال قضية فضّ الاعتصامات السلمية أمام مقر قيادة الجيش في الخرطوم وأمام الحاميات العسكرية في عدة ولايات سودانية في 3 يونيو/ حزيران 2019 إلى لجنة تحقيق ظلت تعمل حتى انقلاب 25 أكتوبر (2021) من دون أي نتيجة. بل ظل المتهمون الأساسيون في قمة السلطة، حتى أنهوا عمل اللجنة بالانقلاب العسكري ومصادرة دارها.
أي وثيقة أو إعلان أو اتفاق يؤدّي إلى وقف الحرب، وينهي معاناة المواطنين النازحين أو المحاصرين وسط القصف، ستكون إنجازاً عظيماً. لكن هذا الإنجاز سيظل هشاً وغير دائم إن لم يؤدّ إلى إنهاء وجود مليشيا الدعم السريع وسائر المليشيات المسلحة، سواء المتحالفة مع "الدعم السريع" أو مع الجيش السوداني. فحرب 15 إبريل (2023) أكّدت ما ظلّت تنادي به القوى الديموقراطية والمدنية وبعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال في السودان (يونيتامس) وغيرهما أن تعدّد الجيوش في السودان يهدّد عملية الانتقال الديموقراطي، كما يهدّد وجود الدولة نفسها. كانت هذه التحذيرات تطلق في وقت تحالف الجيش السوداني مع قوات الدعم السريع، فوجّهت بالتخوين والتشويه، لأنها تتنكّر لما سماه قائد الجيش البرهان "دور قوات الدعم السريع الذي لا ينكره إلا مكابر في حماية البلاد". ما عاد من المقبول عقب حرب 15 إبريل أن تكرّر الدولة السودانية خطيئة الحفاظ على المليشيات وتسليحها تحت أي صفة. كما أن خروج الجيش من السياسة وتسليم السلطة الانتقالية كاملة للمدنيين أصبح أكثر ضرورةً، بعدما شاهدنا كيف تحوّل حليفا انقلاب 25 أكتوبر اللذيْن انقلبا على الفترة الانتقالية إلى عدوّين متقاتلين بعد عام ونصف العام فقط، فدفعا البلاد والعباد ثمن مغامراتهما السلطوية. لكن، هل تبدو موازين القوى الحالية كافية لإجبار المليشيا على تسليم سلاحها والجيش على تسليم السلطة؟ ستكون الإجابة في لقاء جيبوتي المزمع عقده بين الجنرالين المتحاربين، والذي يبدو كآخر قشّة يتعلق بها السودان.