نصف انتصار ونصف هزيمة
سيبقى يوم 7 أكتوبر/ تشرين الثاني 2023 محفوراً في ذاكرة الإسرائيليين لأوقات بعيدة، نظراً إلى الصدمة والفجيعة المزدوجة التي شعر بها سكان إسرائيل، مع انكشاف حقيقة الجيش الإسرائيلي الذي لا يُقهر، وانهيار معادلة الردع، وتلاشي عامل الخوف، تلك المسلّمات التي عاشت فترة طويلة، لكنها تكسّرت جميعها تحت أقدام عناصر كتائب عز الدين القسام في غلاف غزة، أو عبر الفاجعة الأكبر التي تمثلت في جملة أخطاء ارتكبتها مؤسّسات إسرائيلية عسكرية وأمنية، وأهمها الخطأ الفادح في سوء التقدير الذي ارتكبته أجهزة الاستخبارات العسكرية التي ظنّت أن ما يحصل من تحرّكات في محيط غلاف غزة ما هو إلا تدريب ليلي للجيش الإسرائيلي، ولا داعي لإيقاظ رئيس الوزراء نتنياهو من أجله، وتلك خطيئة كبرى لا تحصل في أصغر جيوش العالم وأقلها من حيث الخبرة والمعرفة. وتمثل الخطأ الآخر في توقّف عمل (وقبل عام) الوحدة 8200 في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية والمتخصصة في مراقبة الاتصالات، واعتبار أن الجهد المبذول في مراقبة اتصالات حركتي حماس والجهاد الإسلامي مضيعة للجهد. والخطأ الثالث توجّه جنرالين إسرائيليين إلى الكنيست (البرلمان)، بعد الكشف عن وثائق سرّية تؤكد أن الاضطرابات السياسية الداخلية والصراع السياسي الحاصل بين أحزاب المعارضة على السلطة قد يستغله الأعداء في الهجوم على إسرائيل، لكن الموعد المعطى في الكنيست للجنرالين لم يحضره سوى عضوين من أعضاء الكنيست. الخطأ الرابع في تقدير الاستخبارات العسكرية ومجلس الأمن القومي تهديد "حماس" لإسرائيل، وقد أكّد الأخير أن "حماس" غير مهتمّة حالياً بالهجوم على إسرائيل، وأن التهديد الأخطر قادم من إيران وحزب الله فقط.
وارتكبت واشنطن خطأ فظيعا، كان يمكنه منع تعرّض غلاف غزّة للهجوم، عندما توقفت الاستخبارات الأميركية وأجهزة استطلاعها ورصدها عن جمع المعلومات الاستطلاعية عن حركة حماس وخططها وتحركاتها وتوقّفها عن التجسّس على اتصالاتها، بعد أن اعتبرت أن إسرائيل تقوم بتلك المهمة.
صبيب ناري وفق سياسة "الأرض المحروقة" أو "السجّادة" يعكس مدى الخوف الذي يشعر به عناصر الجيش الإسرائيلي
اليوم، ومع انقضاء خمسة أسابيع على بدء الحرب المدمّرة على قطاع غزة، يمكن القول إن جيش الاحتلال نجح في المرحلة الأولى من خطّة الهجوم التي تضمنت "استعادة زمام المبادرة والتحشيد والتمهيد الناري"، وانتقل إلى المرحلة الثانية "الاقتحام والتثبيت"، عبر الهجوم من ثلاثة محاور: الأول، من حاجز إيرز باتجاه بيت حانون في أقصى الشمال الشرقي من قطاع غزة. والثاني، عبر الاقتحام من محور العطاطرة - بيت لاهيا في أقصى الشمال الغربي. والثالث والأخطر الاقتحام عبر مستوطنة ناحل عوز غرباً باتجاه طريق صلاح الدين، ثم طريق الرشيد على الساحل، لقطع القسم الشمالي من قطاع غزة وفصله، وهو يضم (مدينة غزة، جباليا، بيت حانون، بيت لاهيا) عن القسم الجنوبي من القطاع.
عسكرياً، يمكن القول إن تلك المرحلة نجحت، وإن استغرقت أكثر من المعدّلات الزمنية في المعايير العسكرية، لكنها استطاعت، عبر حوالي أربعة ألوية دبابات تتقدّمها الجرافات وتغطيها رمايات مدفعية وصاروخية من البرّ والبحر والجو، إحكام الحصار على الحوافّ الخارجية للقسم الشمالي من قطاع غزّة، بعد أن تقصدت أن تكون نقاط الانطلاق بالاقتحام تبدأ من مناطق زراعية خالية، وخصوصا جنوب شرق مدينة غزة وجنوب حي الزيتون، تحاشياً من الاصطدام مع عناصر كتائب عز الدين القسام وسرايا القدس التي لا تستطيع القتال في المناطق المكشوفة حتى في وجود الأنفاق، نظراً إلى المراقبة والاستطلاع والتدقيق التي تقوم بها عشرات طائرات الاستطلاع من المسيّرات التي تغطّي سماء مسرح الأعمال القتالية على كامل أرض قطاع غزّة.
نصف الانتصار الإسرائيلي تحقق عبر قتل المدنيين بتمهيد ناري استمر 20 يوماً، ودمّر، وفق صور للأقمار الصناعية، ما بين 35 - 40% من البنى السكنية والعمرانية للمدن الفلسطينية، وتسبب في استشهاد 11 ألف فلسطيني، جلهم من النساء والأطفال، عدا عن أضعاف هذا الرقم من الجرحى والمصابين، وعملية الحصار وفصل الجزء الشمالي الذي تم بتمهيد وصبيب ناري وفق سياسة "الأرض المحروقة" أو "السجّادة" يعكس مدى الخوف الذي يشعر به عناصر الجيش الإسرائيلي لمحاولة إنهاء أي حركة في أثناء تقدمهم داخل القطاع، خوفاً من المواجهة وعمليات الاشتباك المباشر والقريب التي غالباً ما تُحسم لمصلحة المدافعين من أهل الأرض. وزيادة في إجراءات الحماية المصحوبة بالخوف، اخترقت الدبابات الإسرائيلية، وعبر محاور الاقتحام الثلاثة من خلال مناطق زراعية.
اصطادت قذيفة واحدة من "الياسين 105" إحدى عربات "النمر" الإسرائيلية، فقتلت 11 جندياً
ومع البدء بعمليات التوغل لتنفيذ المهمة الثانية من المرحلة الثانية، وهي "التثبيت"، ومع الوصول إلى الكتل البيتونية والمناطق السكنية، بدأت ملامح الفشل تظهر على مفردات أداء الجيش الإسرائيلي، وباتت طلبات الدعم الجوي والدعم الصاروخي من قادة كتائب الدبابات تتوالى على غرف عمليات القوى الجوية الإسرائيلية، بعد أن استطاعت فصائل غزّة، من خلال فرض مرحلة الاشتباك الصفري، وعبر الأداء المميز لقذائف "الياسين 105"، وهي قذيفة طوّرها الجناح العسكري لحركة حماس عن قذيفة "آر بي جي 7" لتصبح قذيفة ترادفية (مزدوجة التفجير)، استطاعت قهر دبابات المير كافا الإسرائيلية التي صُنعت لمواجهة أي قذيفة مضادة للدروع، وما لحق بالمير كافا انتقل إلى عربة الـ"نمر" الإسرائيلية التي بلغت كلفتها حوالي ثلاثة ملايين دولار، وتحمل تصفيح ودرع المير كافا نفسهما، لكن قذيفة واحدة من "الياسين 105" اصطادت إحدى عربات "النمر" الإسرائيلية، فقتلت 11 جندياً، ما دفع رئاسة أركان الجيش لفتح تحقيق في الحادثة.
ومع تلك المواجهات، وجدنا أن هناك تراجعا لمحاور الاقتحام أو ثباتا في بعض المواقع وعدم قدرة على متابعة التقدم لإعلان السيطرة وإنهاء المرحلة الثانية من خطّة الحرب للانتقال إلى المرحلة الثالثة والأهم، والتي تتضمّن مرحلة تدمير الأنفاق ما تحت غزة وبسط السيطرة على ما فوق الأرض وتحتها، ثم انتظار القرار السياسي بالمتابعة جنوباً أو الاكتفاء بما تحقق، وهذا ما دفع الجيش الإسرائيلي إلى ارتكاب المجازر بحقّ سكان أحياء المدن، وجعل مدارس "أونروا" والمشافي أهدافا لحمم الجيش الإسرائيلي وقنابله وصواريخه، بجريمة تنتهك كل أعراف القانون الدولي وقوانين الحرب ومبادئهما.
السقف المرتفع للأهداف الذي وضعته القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل ألزمها بمهام ضخمة، تتبدى حاليا صعوبة في تحقيقها
السقف المرتفع للأهداف الذي وضعته القيادات السياسية والعسكرية في إسرائيل ألزمها بمهام ضخمة، تتبدى حاليا صعوبة في تحقيقها، ومحاولة إرضاء الشارع الإسرائيلي الغاضب، ما أحرج تلك القيادات بالتراجع عنها، وإن باتت التصريحات تتضمن تلك المفردات، فقول رئيس الوزراء، نتنياهو، إن الحرب قد تستمر لأشهر، يعني أنه يضع الإسرائيليين أمام احتمالين، إما القبول بما تحقق والانسحاب بدون إنجازات، نظراً إلى المفاجآت غير المتوقعة التي ظهرت في ميادين القتال، أو الاستعداد لتضحيات كبيرة والانتظار، وهذا ما أكد عليه رئيس أركان الجيش، هرتسي هليفي، عندما خاطب الإسرائيليين قائلاً: "الحرب تحتاج إنجازات، والإنجازات تحتاج تضحيات، والتضحيات تحتاج أثمانا عليكم الاستعداد لدفعها".
اليوم ومع الأعداد المعلنة والمخفية للخسائر البشرية بين ضباط الجيش الإسرائيلي وجنوده، ومع تصريحات كتائب القسام عن تدمير 166 آلية ودبابة لإسرائيل، ومع خسائر اقتصادية إسرائيلية ضخمة، إن كان عبر كلفة الحرب (35 ألف طن من الذخائر ألقيت على قطاع غزة منذ بدء الحرب)، أو عبر نصف مليار دولار خسارة يومية في الاقتصاد الإسرائيلي نتيجة توقف المعامل وعجلة الاقتصاد وذهاب العمّال إلى ساحات الحرب، وأيضاً ضغط أهالي الأسرى لدى حركتي حماس والجهاد الإسلامي، مع تزايد الضغط السياسي والدبلوماسي الذي بدأ يتصاعد من معظم الدول التي بدأت الحقائق تتكشّف لها، وتدرك أن تلك الحرب ليست حرب دفاع عن النفس كما روّجت إسرائيل، بل هي حرب لقتل المدنيين وتهجيرهم، فهل تستطيع إسرائيل المتابعة، أم تكتفي بنصف انتصار ونصف هزيمة؟