نحب في الآخرين ما نريده منهم
يقول إميل سيوران في رأيٍ له عن الحبّ: "نحن نحبّ ما نعتقده وليس ما هو حقيقي، نحبّ الصور التي نصنعها في أذهاننا عن الآخرين، وليس الأشخاص الفعليين في واقعهم الفعلي". قد يكون هذا القول التفسير الأفضل لفشل كثير من علاقاتنا مع الآخرين، أيّا كانوا، أحباباً، عشاقاً، أم أصدقاء أم إخوة أم أبناء أو آباء وأمهات؛ كلّ العلاقات البشرية المبنية على أوهامٍ شخصيةٍ وتوقّعاتٍ وسيناريوهاتٍ فرديةٍ سوف يكون مصيرها الفشل في النهاية، أو على الأقلّ سوء الفهم والاضطراب في التعامل وعدم إيجاد صيغة مشتركة للتفاهم أو لوضعِ أسس مشتركة لتلك العلاقة، بحيث تتجاوز أزماتها ومشكلاتها بدون أن تُصاب بالفشل.
جزءٌ كبير من علاقاتنا الاجتماعية مبنيٌّ على ثقافة تراكمية، خصوصاً علاقتنا الأسرية، نحن نحبّ عائلاتنا وأسرنا، ولكن هل خطر لنا ذات مرّة أن نسأل إن كان هذا الحبُّ مبنيّاً على أسس معافاة؟ كثيراً ما نقول إنّ محبتنا أولادنا غير مشروطة، لكن حقيقة الأمر أنّ لنا شروطا في هذا الحب، ولدينا توقعاتٌ تبدأ حين نوجّه أطفالنا نحو أهدافٍ مستقبليةٍ نرى أنها الأنسب لهم، وحين يكبرون ويختارون مساراتٍ أخرى لا تتناسب مع خططنا، نشعر كما لو أنهم غدروا وعَقّوا بنا. تبدأ المشكلة من هنا، من افتراضِ أنّ إنجابنا أبناءنا وتربيتنا لهم يجب أن تقابلهما الطاعة. وهو ما ينفي نظرية الحبّ غير المشروط التي تُقال عن العلاقة بين الأهل والأبناء. يعجز كثيرون من الأبناء أحياناً عن اختيار مسارٍ آخر غير الذي وضعه لهم آباؤهم بسبب الخوف أو بسبب خشيتهم من العقوق، لكن هذا سوف يجعلهم لاحقاً مضطربين في علاقتهم بالحياة، ذلك أنّهم يبحثون في ما هم فيه عن السعادة فلا يجدونها، فالسعادة تأتي أولاً من حرية اختيار المرء لما يراه مناسباً له ولشخصيته ولسلوكه. لا يختلف هنا شعور الأبناء نحو آبائهم وأمهاتهم، فهم يفترضون أنّ على الآباء والأمهات تقديم كلّ ما يمكنهم، طالما هم السبب في إنجابهم. هذا أيضا مضادٌّ لنظرية الحب اللامشروط. في الحالتين، الطرفان يحبّان في الآخر ما يتمنّيانه أو ما يتوقّعانه، يأتي الإحساس بالخيبة والخذلان حين يدرك طرفٌ ما أنّ الآخر لا يقدّم له ما توقّعه منه.
هذا يظهر أكثر في العلاقات العاطفية وفي الصداقات، حيث سقف التوقعات يصل إلى حدّه الأعلى (في العلاقات الأسرية تنتصر العاطفة المركّبة من تحالف الغريزة مع الموروث على الخذلان). نحن نبدأ علاقة حبٍّ أو صداقةٍ وتبدأ شخصياتنا الدرامية في بناء سيناريوهات مختلفة عمّا يجب أن تكون عليه هذه العلاقة. السيناريو غالباً ما يكون محمّلاً بكتلةٍ كبيرةٍ من التوقّعات الشخصية، ليس فقط لما على الآخر فعله نحو هذه العلاقة، بل أيضاً لما يجب على شخصيته وعواطفه ومشاعره أن تكون. نحن نرى الحبيب والصديق في بداية العلاقة معه بعين قلبنا التي ترى ما نرغبُه في أعماقنا، ثم نسقط هذه الرؤية على الآخر الحبيب أو الصديق، ونحن نعيشُ في سعادةٍ مطلقةٍ لأن حلمنا عن آخر يشبهنا قد تحقّق أخيراً. لكن الحقيقة أنّ هذا الآخر يشبهنا، لأننا نريده أن يشبهنا، أمّا حقيقته فمختلفةٌ كليًا ربما، لكننا لا نتمكّن من رؤيتها في البداية، ذلك أنّنا نعيش في حالةٍ من نيرفانا السعادة التي قد تستمرّ وقتاً طويلًا قبل أن تنهار وينكشف الآخر على حقيقته التي لا تشبه ما اعتقدناه عنه. هنا يتصاعد الشعور بالخذلان والخيبة، ونبدأ في سوق الاتهامات للآخر الذي خدعنا. لكن تلك الخديعة نحن الذين صنعناها، نحن صنعنا منه شخصيةً تناسب رغباتنا وطالبناه بأن يكونها، وحين رفض أو عجز، اتّهمناه بالخداع وتفشل العلاقة التي قد تكون بذورها طيّبة للغرْس لولا مبالغاتنا في التوقع.
والحال أنه نادراً، في مجتمعاتنا، ما تنشأ علاقة من أيّ نوع خاليةً من التوقّعات، ومن وهمنا عن الآخر، وما يجب أن يكون عليه، ذلك أنّنا ننشأ، منذ نعومة أظفارنا، على المبالغة في التعبير عن عواطفنا، ما يجعل الآخر يتوهّم في هذه المبالغة قدرةً على عطاء لا ينتهي، ويجعلنا ننتظر مقابلًا لهذه العاطفة الغامرة. لكن الحقيقة أنّنا نعيش علاقاتٍ مريضةً محكومةً ليس بالفشل فقط، بل بنهاياتٍ عدوانيةٍ أيضاً.