نجاحات قيس سعيّد
استهلكنا، نحن من نقف في ضفّة المجرى الديمقراطي، وفي غير ضفّة أصحاب النكايات والممسوسين بالعدوانية ضد مجاميع الإسلام السياسي، كلاما كثيرا في قيس سعيّد. لم نفتئِت عليه، بعد أسابيع على نجاحه في رئاسيات تونس، أكتوبر/ تشرين الأول 2019، لمّا راجعنا أرشيفَه الخالي من أي منجز، ولمّا ذكّرْنا بأنه بلا أي مأثرةٍ مهنيةٍ أو سياسية، وبلا أي بادرةٍ نضاليةٍ أو حقوقيةٍ في معارضة بن علي ونظامه، وبلا أي تميّز أكاديمي في مباحث القانون الدستوري الذي شاع أنه خبيرٌ فيه. ولكنها استحقاقات صندوق الاقتراع جعلتنا نرمي هذه الاعتبارات وراءنا، سيما وأن صلاحيات الرئيس محدّدة في الدستور والنظام السياسي في تونس.
أسابيع أخرى، وصار سعيّد أكثر انكشافا، لمّا برع في تظهير نفسه زاهدا في مباهج السلطة، ونحريرا في مناهضة التطبيع مع إسرائيل، ويتأسّى عمر بن الخطاب في سؤال ربّ العزّة له عن أي بغلةٍ قد تتعثّر في العراق، ما جعلنا نظنّه سيصل الليل والنهار في العمل من أجل نهوض تونس من عثراتها في غير شأن، وسيجهد لكي يرفل مواطنوه بالرّفاه. ثم تأكّد أن لا مخيّلة لدى الرجل تُسعفه في أمرٍ كهذا، وأنه يعتقد أن جلوسه في المقهى، وعدم سكناه القصر الرئاسي، وتصويره يحمل بنفسه كراتين (هل المفردة فصيحة؟) طرودٍ غذائيةٍ لمحتاجين، فروض كفايةٍ تُعفيه من أي مساهمةٍ عمليةٍ في إنقاذ البلاد من أزمتها الاقتصادية التي ما انفكّت تزيد. وتبيّن، في الأثناء، أن ما يقيم في حشايا صاحبنا هذا أن الدستور لا يُعجبه، وأن الأحزاب لا مدعاة لها، وأن البرلمان يُحرز صلاحياتٍ لا يستحقّها، وأن على الحكومة أن تعود إليه في كل كبيرة وصغيرة. ولا بأس، في التلميح والتصريح عن هذا، من كلامٍ كثيرٍ يلقيه، كيفما اتفق، عن فاسدين ولصوصٍ في البلاد، مع ثباتٍ على تقطيبة التّجهم إياها (ابتسم مرّةً يتيمة، في جمعٍ مع تونسيين في القاهرة، بينهم المغنية لطيفة).
نجح قيس سعيّد في تسويق نفسه بالصورة التي أرادها، لمفاعيل عديدة، ليس منها أن ملكاتٍ فيه ساعدتْه في هذا النجاح الذي ساهم فيه البرلمان البائس، لمّا منعت أكثريةٌ فيه الثقة عن مرشّح كتلة الحزب الأول فيه لرئاسة الحكومة، الحبيب الجملي، نكايةً بهذا الحزب الذي اسمُه حركة النهضة، ما عنى أن يؤول القرار إلى الرئيس، وشهيّته في ذلك فظيعة، فكان الذي نعرف مما صار في متوالية تعيين إلياس الفخفاخ ووزرائه، والذي اضطرّته شبهة فسادٍ جاءت عليها هيئةٌ معنية بالنزاهة (هل ما زالت تحقّق في المسألة؟) إلى الاستقالة، لينفرد قيس سعيّد بتعيين هشام المشيشي خلفا، والذي لم يكن من بين أزيد من عشرة أسماء رشّحتها أحزاب البرلمان (كيف لقيس سعيّد أن يحترم البرلمان وأحزابه؟). ولمّا أجرى الأخير تعديلا (تحويرا بلغة أصدقائنا التوانسة) في حكومته، ذات الغالبية التكنوقراطية، وحاز الوزراء الجدد الثقة النيابية اللازمة، طلع الرئيس ببدعة امتناعه عن أداء الحكومة اليمين أمامه، بذريعة اشتباهه هو (وحده) بفساد أعضاء فيها، في تطاولٍ ظاهرٍ على الأعراف المعتادة. وقد نجح في مُراده، تعطيل الحكومة التي لم يُسترشَد به في تعيين وزرائها الجدد. ثم زاد نجاحا آخر مؤزّرا، لمّا استعان بشعرٍ لأبي العتاهية في رفضه المصادقة على قانون انتخاب أعضاء المحكمة الدستورية العليا الذي مرّره البرلمان. وقد مكّنه هذا النجاح من التفرّد في تأويل الدستور كما يريد، وفي افتعال التأزيم الذي يتوخّاه ليزيد الناس مقتا بالحكومة التي فشلت في غير ملف، وبالبرلمان الذي صار ملعبا للتهريج.
نجاحات قيس سعيّد هذه في أقلّ من عامين، ولم تُقابَل بغير أحاديث خبراء وقانونيين عن خروجها على النظام والدستور، وبكلام غاضبين، يسّرت له نجاحَه الأحد الماضي، لمّا اختلق ما سمّاها "تدابير استثنائية" أوجبتها أوضاعٌ في البلاد بحسبه، فيما الذي أوجبها نزوعُه إلى التسلّط، ورغبته في دسترة الجمهورية التونسية بكيفيةٍ أخرى. والبادي أنه سينجَح في هذا، طالما أن إسنادا ظاهرا من المرجّح أنه أحرزه من قيادة الجيش، وطالما أنها فقط بياناتُ أحزابٍ وهيئاتٍ في البلاد عارضته، على كثرتها وأهميتها، وطالما أن في وسعه أن ينجز ما هو أكثر، وأن لكلٍّ أن يقول الذي يشاء، ويُصدر بيانات الاستهجان والرفض التي يريد.. ما قد يعني أن نجاحات قيس سعيّد ستستمرّ، مثلا باستفتاءٍ غير مستبعدٍ يقرّر نظاما رئاسيا، وبغير ذلك مما لا نعرف مما في جدول الرئيس ودماغه، ويرتدّ بتونس إلى تنويعاتٍ من الاستبداد مبتكرة وجديدة.