نار الغريب ولا جنّة هلي
"حركة التحرّر الوطني العربية تهنئ القائد المناضل بنجاح عملية البروستات". .. تنشر جريدة الحزب الحاكم والجرائد المتفرّعة عنها هذا الخبر على صدور صفحاتها الأولى بالخط العريض من دون أن يرفّ لرؤساء تحريرها جفن، ثم تورد أسماء الزعماء الذين باركوا للقائد بنجاح عملية البروستات فردا فردا. لا أعرف ماذا كان موقف القادة المهنئين بنجاح العملية من إيراد مقاطع من تهانيهم في هذه الصحف، ولكنني واثق من أن كل من قرأ الخبر حينذاك لم يعد ينظر بعين الاحترام لهذا المصطلح "حركة التحرّر الوطني العربية"، فهل كان المقصود من هذا الخبر تهزيء أولئك الذين يشملهم هذا المصطلح؟ حسن النية لا يقف وراء هذا الخبر البارز، وإلا لاكتفت الصحف بعبارة "بنجاح العملية" بدلا من إيراد التفاصيل. هذا الخبر طبعا نشر منذ زمن بعيد، حين كان هذا المصطلح لا يزال يحتفظ بأهميته، ووراءه نية معقودة على إذلال هؤلاء المهنئين.
في خبر آخر: "جلالته يُصدر عفوا عن سبعة آلاف معتقل بمناسبة طهور ابنه". حرية سبعة آلاف شخص أمر يدعو إلى السرور والغبطة، ولكن ألم يكن من الممكن إطلاق سراح هؤلاء السبعة آلاف ضمن عملية قانونية من دون ربط حريتهم بـ "حمامة" ولي العهد؟ مؤكّد أيضا أن ذلك ليس فرحا بطهور الوليد، بقدر ما هو جعل كل مكاسب الناس مرتبطةً بهذا الأمر. ولا شك أيضا أن الموضوع مقصود منه الإساءة وإهانة هؤلاء الذين دخلوا بسبب رأي وخرجوا إكراما لطهور ولي العهد.
بشكل عام، لا يقيم سلوك الأنظمة والسلطات العربية في التعامل مع مواطنيها أي وزن لهؤلاء المواطنين، أفرادا كانوا أم أحزابا ومنظمات وهيئات مختلفة، حيث تسعى هذه السلطات إلى الإبقاء على مواطنها ذليلا بأكبر قدر ممكن، لأن المواطن الذليل أقل قدرةً على الرفض والاعتراض، وسهل القيادة والانصياع. وبالتالي، لا يشكل أي خطر على هذه السلطات المستبدّة، التي لا تؤثر فيها أبدا رغبة مواطنيها جميعا بمغادرة البلاد التي تحكمها، ويتوه أفراد شعبها في كل أصقاع الأرض، يتعرّضون لكل أنواع المهانة والإذلال، من دون أن تهتز شعرةٌ في بدن هذه الأنظمة والسلطات. ولذلك، نرى أن خبر موت مواطنيها على الحدود بردا وجوعا يشغل كل وسائل الإعلام، إلا وسائل إعلامها التي تتحدّث عن كل شيء، ما عدا مأساة مواطنيها، وإنْ ذكرتهم فإنها تذكرُهم بسوء، ولا تتوانى عن وصفهم بالإرهابيين أو تصنيفات أخرى من هذا القبيل.
أي سلطة مهما كان شكلها يُفترض أنها تمثل مصالح كل أفراد شعبها، ولكن سلوك هذه السلطات يجعلنا على قناعةٍ بأنها لا تعتبر نفسها كذلك أبدا، عندما لا تلقي بالا لموت أبناء شعبها في غابات الغرباء. ولقناعة مواطنيها بذلك، أي بأنها لا تمثلهم ولا يهمها أمرهم، لا بل تنتظر عودتهم لتعرّضهم لإذلال أكبر من ذلك بكثير، فإنهم يفضّلون الموت بردا أو جوعا أو غرقا في غابات الغرباء وبحارهم على العودة إلى براثنها. نعم لا يمكن وصف حالة المواطن الواقع تحت سلطة هذه الأنظمة سوى بأنه بين براثنها، فهو في عهدتها مذلولٌ مقموعٌ مسروقٌ موجوع، وغير ذلك من أصناف المشاعر السلبية. ولذلك يفضّل "نار الغرباء على جنة أهله".
هذا الإذلال الممنهج للمواطن في البلدان التي تحكمها تلك الأنظمة يجعل مطالب المواطن متدنية إلى أبعد الحدود، فهو يكتفي بالحلم بأن يكون إنسانا محترما، حتى لو كان جائعا. وأذكر هنا بطل إحدى القصص الذي حلم بأنه قد نبت له جناحا صرصور، فقال له صديقه: وما المشكلة، وهل نعيش في حالة أفضل من حالة الصراصير؟ فرد الرجل الذي شاهد الحلم بأن ما يزعجه ليس موضوع الصرصور بحد ذاته، فهو يشعر بصرصوريته أربعا وعشرين ساعة في اليوم، وما يزعجه أنه كان في السابق يشاهد نفسه في المنام إنسانا. وهذا تماما ما تفعله تلك الأنظمة، إنها تجعل مواطنيها يتمنون مشاهدة أنفسهم في المنام بشرا، إنها تحرمهم إنسانيتهم.