"مُختفون" وذاكرة مثقلة
اختار تلفزيون العربي أن تكون قصة الكاهن الإيطالي الأب باولو دالوليو أولى حلقات سلسلته الوثائقية الجديدة "مُختفون"، التي بثّت الأربعاء الماضي. سرديات/ روايات عدة قدّمت عن الأيام وحتى الساعات التي سبقت اختفاءه في مدينة الرقّة السورية عام 2013، وتوجّهه إلى مقرّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) فيها متسلّحاً بقدرته على التواصل مع الجميع، انطلاقاً من موقعه ومقاربته الخاصّة للمشهد في سورية والثورة والنظام، لكن ذلك كله لم يشفع له، كما تبيّن بعد إخفائه.
كما في جميع حالات الإخفاء القسري، ينحصر مصير الأب باولو، بعد عقد من التغييب، بين الاحتمالين الوحيدين، البقاء على قيد الحياة معتقلاً في مكانٍ ما، أو مقتولاً. وهنا أيضاً تعدّدت الروايات، لكن لا أحد يملك الحقيقة أو على الأقل يستطيع البوح بها، وإلا لما بقي مصير الأب باولو مجهولاً.
يفترض بالحلقات المقبلة من الوثائقي أن تستعرض حالاتٍ من بلدان عربية عدة مليئة بقضايا مماثلة لم تستطع إغلاق هذا الملف. ومعالجة قضايا الإخفاء القسري أشبه بالدخول إلى سرداب فيه ألف دهليز ودهليز، تختلط الحقائق/ الوقائع بالشائعات وبتفاصيل أسيء تفسيرُها أو جرى تضخيمها، وحتى بمعلوماتٍ مضلّلة يتعمّد بعضهم ضخّها لغايات محدّدة. وتبدو مهمة فلترة الشهادات والمعلومات لمحاولة الحصول على حدٍّ أدنى من الحقائق، خصوصاً عندما لا تتقاطع الروايات في كثير من تفاصيلها، مهمة خطرة، وتصبح حتى أصعب كلما كانت قائمة أعداء الشخصية المختفية كبيرة.
يبقى الأقسى في كل تجارب الإخفاء، ثنائية الأمل/ الخيبات التي ترافق أهالي المغيّبين، بمن فيهم فرانشيسكا دالوليو، وهي شقيقة الأب باولو التي ظهرت في الوثائقي توصِّف حجم الألم لدى العائلة. كما يمكن تذكّر موقفها عندما راجت أنباء في 2019 عن مفاوضاتٍ لإطلاق سراحه. ورغم تكرّر الخيبات، يبقى الأمل الخيار الوحيد المتبقي لها ولباقي أفراد العائلة باستثناء الاستسلام.
وعند الحديث عن حجم المعاناة التي يختبرها ذوو الضحايا، تعود الذاكرة إلى عام 2013 أيضاً، وتحديداً في اليمن. في مثل هذه الأيام، قبل عقد، أُعلن عن العثور على الناشط اليساري مطهر الإرياني، وكان قد اعتقل منذ مطلع الثمانينيات واختفى منذ ذلك الحين في إحدى دور العجزة، وهو في وضع صحّي وعقلي متدهور. ثم جرى نقله إلى منزل العائلة وسط فرحة غامرة قبل أن يتقرّر إجراء فحوصات الحمض النووي لقطع الشك باليقين، ثم يتبين أنه لم يكن مطهر الإرياني، لتتبدّل أحوال العائلة مجدداً، وما زال بحثُها عنه مستمرّا، تحديداً من بناته اللواتي يرفضن الاستسلام، حالهن كحال آلاف الأسرى في اليمن، مثل عائلة علي قناف زهرة وسلطان القرشي، والذين تصرّ عائلاتهم على استمرار مساعيها للكشف عن مصائرهم. وتشكل معاناة هؤلاء المشتركة عامل إسناد لهم، إذ يدركون جيداً أن مصائرهم تتشابه تماماً، مثلما تشابهت ظروف حياتهم منذ لحظة إخفاء ذويهم. ولذلك فإن تشكيل رابطة أسر المخفيين قسراً في اليمن، وحملة "الجدران تتذكّر وجوههم"، وكذلك ما نشرته صحيفة النداء عن هذا الملفّ الذي كان يمنع التطرّق إليه، جميعها خطوات ساهمت في إبقاء القضية حيّة.
وفي لبنان، كانت تجربة أخرى مماثلة عبر لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين. وعلى مدى سنوات ما بعد الحرب الأهلية، لم يملّ الأهالي من رفع الصوت بحثاً عن مصائر أبنائهم، وإطلاق المبادرة تلو الأخرى، بما في ذلك نصب خيمة اعتصام مفتوح في حديقة جبران خليل جبران في وسط العاصمة بيروت، على أمل أن يتحدّث من يملكون الحقيقة، لكن ذلك كله بلا جدوى. وكم من قصصٍ لأمهات قضين قبل معرفة مصير أبنائهن، وودعتهنّ أمهاتٌ أخريات كن يخشين المصير نفسه، لكن قصة أوديب سالم التي قضت بعدما دهستها سيارة بينما كانت تقطع الطريق باتجاه خيمة الاعتصام من دون أن تعرف مصير ابنيها تبقى الأكثر حضوراً في الذاكرة.