مُخبر على مُخبر

19 فبراير 2023

(Getty)

+ الخط -

شعر بوخز في معدته وهو يستمع إلى مدير المخابرات بشأن تقليص عدد المخبرين في المديرية، نظراً إلى تناقص أعداد "الخونة" من المعارضين.

كانت مفاجأة مدوّية بالنسبة إليه في ذلك الاجتماع المشؤوم الذي دُعي إليه فريق المخبرين العاملين في المديرية، عندما راح المدير يتحدّث إليهم بلكنته الحازمة: "بداية، يسعدني أن أنقل إليكم تهنئة فخامة الرئيس لقاء جهودكم المشكورة في ملاحقة الخونة بلا هوادة، التي أسفرت عن القضاء المبرم عليهم، بدليل أننا لم نعد نتلقى أي تقرير جديد منذ مدة. ولأن الأمر كذلك، فقد ارتأى رئيسنا المحبوب أن يمنحكم إجازة مفتوحة من العمل، وهي فرصةٌ لكم للتمتع مع عائلاتكم"، وما لبث أن أدار كرسيّه ومضى، حتى من دون أن يفتح باباً للمناقشة.

ارتعش صاحبنا المخبر عندما سمع العبارة عن "الإجازة المفتوحة"، ولا يدري كيف توقفت عيناه عند حاوية القمامة المركونة في غرفة الاجتماعات، وشعر لوهلة بأنه خسر "أهميته" كلها دفعة واحدة، ولا سيما بين المعارف والمحيطين والجيران، وتحامَل على نفسه لينهض عن كرسيه ويخرج من الاجتماع صفر اليدين.

لم يكن يدري أين تقوده قدماه، فقد شعر بأنه يرى شوارع المدينة للمرّة الأولى، على الرغم من أنه يحفظ تفاصيلها بالسنتيمتر من كثرة تجواله فيها وملاحقة "الخونة"... وعند ذكر "الخونة"، انتفض صاحبنا وعادت إليه حيويته، وتساءل عمّا إذا كان المدير مخطئاً في حساباته، وقرّر أن يبحث عنهم بنفسه، ومن دون أوامر هذه المرّة.

راح يحرُث الشوارع على غير هدى، علّه يظفر بـ"خائن" جديد يستعيد به أهميّته، ومن حسن طالعه، لمح شخصاً بقميص برتقاليّ وبنطال أزرق وجوارب خضراء يهتف في أحد الشوارع: "يسقط الزعيم". وعلى الفور، انتفض بدن صاحبنا، وغلى دمه، وبدأ التعامل ضمن "قواعد الاشتباك" التي يتذكّرها عن ظهر قلب، فانتزع جهاز الإرسال من جيبه، ليتصل على الخط الساخن بمديره، وإبلاغه عن "الخائن". وإنْ هي إلا بضع دقائق، حتى كانت دورية الأمن في المكان الذي وصفه صاحبنا، وراحوا يمشّطونه بدقّة بحثاً عن "الخائن"، غير أن محاولاتهم باءت بالفشل، فقد تبخّر تماماً وكأنه لم يكن موجوداً أصلاً.

وعندما استفسروا من صاحبنا المخبر، أقسم أغلظ الأيمان أنّه رآه بأمّ عينيه وسمعه بشحمتي أذنيه وهو يهتف عن إسقاط الزعيم، بل استطاع تقديم وصف دقيق لملامحه وشعره، وملابسه أيضاً.

لم يملك رجال الدورية غير تصديق صاحبنا، فهو مخبر، أساساً، ولم يسبق له أن قدّم بلاغاً كاذباً، لكنهم طلبوا منه أن يكون يقظاً في المرّات المقبلة، ولا يتلكأ في الاتصال لأيّ سبب.

وكان يمكن أن ينتهي الأمر عند هذا الحد، لولا أنّ المدير تلقّى من المخبر نفسه بلاغاً جديداً في اليوم التالي، يزعم فيه أنّه عثر على "خائن" يخطّط لتقويض نظام الحكم، وإسقاط الرئيس. والغريب أنه قدّم وصفاً مماثلاً لسابقه: رجل يرتدي قميصاً برتقاليّاً وبنطالاً أزرق، وجوارب خضراء. وما إن انتهى من وصف "الخائن" والمكان، حتى كانت دورية الأمن تجوب المنطقة بحثاً عن رجلٍ بهذه المواصفات، لكن أيضاً بلا جدوى، ثم تكرّرت البلاغات على مدار أيام أخرى، والحصيلة نفسها: لا وجود للخائن ذي القميص البرتقالي والبنطال الأزرق، والجوارب الخضراء.

حار قادة المخابرات في طبيعة ما يحدُث مع هذا المُخبر، فقد خافوا أن تكون البلاغات صائبة ويكون هذا "الخائن" موجوداً بالفعل ويهدّد أمن البلد. وفي مقابل ذلك، راودتهم شكوك بشأن سلامة المخبر العقلية، فما كان منهم غير اتخاذ قرارٍ بتعيين مخبر يتابع صاحبنا المخبر، لمساعدته في القبض على "الخائن" إن كان موجوداً حقاً، أو معرفة ما يحدُث إن كانت البلاغات وهمية.

بعد أيام، تكشّفت الحقيقة عندما أرسل المخبر الثاني بلاغاً حقيقيّاً عن وجود "خائن" يرتدي قميصاً برتقالياً وبنطالاً أزرق، وجوارب خضراء، ويهتف بسقوط الرئيس في أحد شوارع المدينة. فسارعت دورية الأمن إلى الموقع، ووجدت "الخائن" فعلاً بالمواصفات السابقة. لكنّ الصدمة التي ألجمت الدورية وجهاز المخابرات برمته كانت عندما اكتشفوا أنّ "الخائن" لم يكن غير المخبر الأول.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.