مَن سيحدّد وجه الشّرق الأوسط الجديد؟
قبل أنْ تتبنّى وزيرة خارجيّة الإدارة الثانية لجورج بوش الابن كونداليزا رايس مصطلح "الشّرق الأوسط الجديد"، كان شيمون بيريس كَتَبَ كتابه الذي صدر بعد نحو عامين من توقيع منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل اتّفاق إعلان المبادئ (أوسلو)، تحتَ العنوان نفسه، وكانت رايس، خلال فترة الحرب الإسرائيليّة على لبنان (2006)، كأنّها انتقلت من برنامج "الشّرق الأوسط الموسّع" الذي أعلنته الولايات المتّحدة إلى تبنّي الرؤية الإسرائيليّة بشكلٍ كامل عن إعادة "هندسة" الشّرق الأوسط (التّعيس)، وإنْ شكّك باحثون في أنّها قالت ذلك، وأرجعوا تداول الجملة إلى سوء التّرجمة، لكنّ ذلك ليسَ مهمًّا الآن، فها هو نتنياهو يعيد الجملة إلى الواجهة، حينَ قالَ وهو يبدأ مهاجمة لبنان: "الآن... بدأنا خطّة مُمَنهَجَة لتغيير الشّرق الأوسط"، وأعلن عن محاور ما سمّاه "الخير والشّر" من نيويورك، حيثُ منظمة الأمم المتّحدة ومجلسُ أمنها، وحيثُ القوانين التي لا طائِل منها، والتّوحّش "البربري" الذي يرتدي ثوبَ الحضارة، ويقدّم تصوّره الأصولي حول شكل التّحضُّر.
طوال السّنواتِ الماضية، تضع دولة الاحتلال الإسرائيليّ ومن خلفِها الولايات المتّحدة بإداراتها المتعاقبة خططًا لتغيير (هذا) الشّرق الأوسط، أو تجديده أو تدجينه، وكأنّ الأمر أصبحَ لازِمة سخيفة لأيّ إدارة أميركيّة، ثمّ تكتشف أنّ خططها للتغيير الاستراتيجيّ لم تكن إلّا فوضى غير منظّمة. ولننظر قليلًا إلى الوراء: أسقطت الولايات المتّحدة النظام العراقيّ، بزعم وجود أسلحة دمارٍ شامل، ورجّحت كفّة حكم نوري المالكي، ما عزّز وجود الجماعات المسلحة (المقرّبة من إيران)، ثمّ بحثت عن طرق للخروج من وحل العراق، تماماً كما خسرت 20 عاماً من وقتها وجهدها وجنودها في أفغانستان، التي عادت حركة طالبان فيها إلى سدّة الحكم، إضافة إلى أنّها دعمت بشكل مباشر بعض الجماعاتٍ المسلّحة في سورية، حيثُ اعتبرت أنّها تساهم في مواجهة المدِّ الروسي/ الإيرانيّ الذي استعانَ به نظام بشار الأسد، كما تدور حولها التقارير والاتّهامات والوثائق حولَ دعمها للتّطرف الأصوليّ كتنظيم الدّولة الإسلامية الذي ظهر من العدم ثمّ اختفى تقريباً، كما أنّها أسقطت نظام معمّر القذافي، ووضعت يدها في السّودان وأزمة تقسيمه الأولى، وأزمته الحاليّة. أمّا في لبنان فتتنازع مع فرنسا وإيران زيادة الأزمة الداخليّة، وفي فلسطين المحتلة... قوّضت مع دولة الاحتلال ما يسمّى حلّ الدولتين، وأوصلت "السّلطة" الموجودة هناك إلى كيانٍ هلامي من دون دور وظيفيّ حتّى، إضافة إلى اختراعاتها التي تخرج بين فينةٍ وأخرى، وليسَ آخرها صفقة القرن، و"مبادرة" بايدن التي نقلها عن نتنياهو، قبل أنْ يتراجع الأخير عنها، وهلُمَّ جرّاً... من صفقاتٍ وتدخلاتٍ في المنطقة العربيّة والشّرق الأوسط وشمال أفريقيا لم تجلب سوى الخراب والدّمار والفشل الذريع.
إن كان نتنياهو يفكّر بصفقة رهائن قبل اغتيال يحيى السّنوار وحسن نصر الله، فإنّه الآن لا يفكّر إلّا من منطلق القوّة ونشوة "الانتصار"
إذن، يبدو معقولاً أنْ تصل أيُّ إدارة أميركيّة إلى أنّ الفشل الذريع الذي مُنيت به في كلِّ الحروب والتّغييرات التي قادتها، يتطلّب منها تغيير سياساتها تجاه المنطقة، أو على الأقل كفّ يدها عن هذه المنطقة المنكوبة، لكنّ ذلك مستحيل المنال، حيثُ الفوضى والانقسام (والاقتسام أيضاً) هما ضمانُ بقاء دولة الاحتلال. وعليه، كانَ 7 أكتوبر (2023) حدثاً مفصليّاً، شأن انهيار جدار برلين، غيّر حسابات الاحتلال والولايات المتّحدة، وأعاد إلى الواجهة قضيّة فلسطين قضيّة أساسيّة لا يمكن الوصول إلى الاستقرار (إنْ كانَ أحدٌ يرغب بالوصول إليه) بلا إيجاد حلٍّ عادلٍ (بشكلٍ ما) مستند إلى الشرعية الدولية (غير الشرعيّة غير العادلة)، وكانَ نقطة انهيارٍ لأسطورة جيش الاحتلال الذي لا يُقهر، حينَ كبّدته فصائلُ مسلّحة بإمكاناتٍ بسيطة خسائر هائلة، وصمدت صموداً أسطوريّاً، رغمَ تغوّله وتوحّشه على المدنيين بشكلٍ لن ينساه التاريخ، ولا يمكنُ وصفه إلّا بـ"النازيّة الجديدة".
مرّت الأيام الـ400 ثقيلة وجنونيّة على الجالسين تحتَ القصف واحتمالات الموت والجوع في غزّة
الآن، ومع اقترابِ الحرب من يومها الـ400، وفي ظلِّ الانتخابات الأميركيّة، وتطوّرات الحرب في لبنان منذ تفجيرات "البيجر" والاغتيالات الكبيرة التي جرت في أسبوعٍ فقط، يبدو أنّ دولة الاحتلال استعادت هالة القوّة والرّدع إلى درجة العظمة والجنون، ولا يحضُرني إلّا محمود درويش وهو يقول في احتفاليّة نظمتها جامعة بيرزيت بمناسبة إنهاء الاحتلال الإسرائيليّ للجنوب اللبنانيّ عام 2000، إنّ "إسرائيل انتصرت على العرب أكثر من طاقتها على تحمّل تبعات نصرها، إذ صار دماغها العسكري أكبر من جسدها، فأصبحت أسيرة لفائض قوة جشعة...". لذا، إن كان نتنياهو يفكّر بصفقة رهائن قبل اغتيال يحيى السّنوار وحسن نصر الله، فإنّه الآن لا يفكّر إلّا من منطلق القوّة ونشوة "الانتصار"، وهو لن يتوقّف، فالفرصة مواتية لفعل الكثير في الشّرق الأوسط والمنطقة، بداية بمفاعلات إيران، وليسَ نهاية بتوسيع حدود دولة الاحتلال وإعادة رسم خريطتها وتهجير مَن (وما) يمكن تهجيره، في ظلّ عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.
مرّت الأيام الـ400 ثقيلة وجنونيّة على الجالسين تحتَ القصف واحتمالات الموت والجوع في غزّة. أمّا نحنُ فنستمرُّ في يوميّنا، وفي فُرجتنا "المريحة" على صور وأصوات ودماء عشراتِ آلاف الضّحايا في غزّة ولبنان والضّفة الغربية والقدس. لكن ربما علينا أيضاً أنْ ننظر إلى التاريخ علّنا نكفّ عن قول "أكلتُ يومَ أكِلَ الثور"، فالثّور الوحيد الهائجُ في المنطقة هو التّطرف الإسرائيليّ الذي أصبحَ وسيصبح لجمُهُ شبه مستحيل. وكلّ هذا سيغيِّرُ الشرق الأوسط فعلًا.. إلى شرقٍ أوسط جديد، أمّا شكله فوحدهم سكّانه وحُكّامه عبر اختياراتهم سيحدِّدون شكل المرحلة المقبلة: إمّا "سلامٌ بلا خيول" أو "حتّى نطرُدَ الحرّاس عن أسوارِ قلعتِنا".