ميشيل كيلو في رواية أخرى
لكثرة ما صنع ميشيل كيلو واشتغل وأنجز وأخفق في حياته الدسمة، ربما يستحسن التعاطي مع رحيله بمشاهد متقطعة، وخصوصاً عندما لا تدعي معرفة شخصية معمقة به، بل مجرد متابعة لتطوره في يساريته وعروبته وديمقراطيته ونضاله ضد الاستبداد وإصراره على رؤية سورية حرة ديمقراطية بأي ثمن وبأي وسيلة. لدى الآلاف ما يقولونه عن ميشيل كيلو، سورياً وعربياً وفلسطينياً وشخصياً وثقافياً. وربما تفيد بعض السطور في الإضاءة على ميشيل كيلو المتحمّس حماسة الأطفال لولادة إطار سوري معارض جامع، إحدى نسخه تقررت تسميتها "المجلس الوطني السوري"، وقد شهدت باريس على الأيام الأولى لما بعد ولادته في اسطنبول، ما بين قاعة قدمتها "لوموند ديبلوماتيك" وأخرى سمحت بلدية ضاحية مالاكوف جنوب غربي العاصمة الفرنسية باستخدامها للاجتماعات ولمعالجة الخلافات الكثيرة، والتي نذر ميشال كيلو نفسه لمحاولة حلحلتها، لعله يتمكّن من إزاحة بعض النرجسيات، ولو مؤقتاً، على اعتبار أن المهمة المطروحة هي بحجم تكوين جسم سوري جامع يحظى بالاعتراف المحلي والدولي ليكون بديلاً ديمقراطياً تعددياً لنظام بمستوى إجرام آل الأسد والعصابة والتحالف العالمي الداعم له.
بضعة أيام من "ملاحقة" ميشيل كيلو صحافياً في باريس خريف عام 2011، وبضعة لقاءات بيروتية في صحيفة السفير أوائل أيام الثورة السورية، كافية ليفهم المرء عن أي طينة من الناس نتحدّث، وعن أي شعور بواجب النضال يحرك سبعينياً (في حينها) ليتغلب على متاعبه الصحية لعلّه يفلح في رؤية ما سعى لمشاهدته قبل رحيله: سورية حرة وديمقراطية، سورية بلداً لمواطنين، بلداً لـ"شعب حقاً" مثلما كتب في رسالته ــ وصيته إلى السوريين (العربي الجديد، 9 إبريل/ نيسان 2021). كانت الدنيا تعجّ بالحلم الكبير الذي صدّقنا أنه سيتحقق في غضون أشهر بالفعل. كان ميشال كيلو خارجاً لتوّه من سورية بعدما اقتنع باستحالة "المعارضة من الداخل" في الجحيم الأسدي. وصل إلى فرنسا حيث شهد على محاولات تمتين المجلس الوطني السوري، لعله يكون نسخة منقحة من منظمة التحرير الفلسطينية، بأخطاء أقل وبأدوات أكثر وبأدنى معدل ممكن من الانتهازية. تأخر وصول ميشيل كيلو لكنه وصل في النهاية، وكان ذلك كافياً لبث مشاعر ارتياح عند كثيرين، سوريين وغير سوريين، ذلك أن للرجل مصداقية معتبرة حتى عند من لا تعجبهم مواقف كثيرة تُحسب له أو عليه. نادراً ما غاب ميشيل كيلو عن منتدى حكماء أو خبراء أو مستشارين له علاقة بالثورة السورية وبشؤونها، ونادراً ما رفض طلب كتابة مقال عن الثورة في أيامها الأولى خصوصاً، وقد كان من أوائل من شرّحوا في ملحق "السفير العربي" البيروتي أسباب ثورة حمص على ذلك المحافظ اللعين، إياد غزال، "صديق بشار الأسد، ومحل ثقته منذ الطفولة والمدرسة" مثلما كتب ميشال في يوليو/ تموز 2012.
دعك من نضال الرجل في السجن وخارجه وتماسكه وتكييف تفكيره مع التحولات. دعك مما أنجزه وعجز عنه، سورياً وعربياً وفلسطينياً وفكرياً وصحافياً. دعك من كل هذا وذاك. تكفي مراقبة الحرص الذي تملّك ميشيل كيلو في أيام تأسيس كل الهيئات السورية المعارضة على اعتبارها احتمال خلاص من الجحيم. هذا الحرص الذي يزيل كل أنا متضخمة، هو من بين أكثر ما ينقص الثورة السورية اليوم ربما. يكفي ميشيل كيلو فخراً أنه شرح للعالم ماذا يعني نظام الأسد بقصة يفهمها كل عقل إن كان حامله بني آدم: طفل سوري مولود في الزنزانة لأم مسجونة عقاباً لوالدها الإسلامي. يحاول ميشيل المعتقل أيضاً أن يقص عليه حكاية عن عصفور فيسأله الطفل عن معنى العصفور. يحاول إيجاد الجواب بأنه ذلك الذي يطير على الشجرة، فيطحنه الاستفسار عما هي الشجرة؟
لم يرحل ميشيل كيلو إلا بعدما تحرّر من كل الأكاذيب التي تلصق باسم فلسطين والمقاومة كوصفة سحرية لتأبيد الاستبداد. تعبيره الغاضب كان لـ"العربي الجديد" الحصة الوازنة منه على شكل عمود أسبوعي صبيحة كل يوم سبت منذ سنوات. الرحلة اختتمها برسالة وصايا للسوريين كللها بحكمة ترسّخت لديه ربما في أيام السجن بجوار رياض الترك: لن تصبحوا شعباً واحداً ما دام نظام الأسد باقياً.