ميشال عون والمراوحة في الفراغ
تهيمن على تاريخ لبنان المعاصر حالة من المراوحة التي ترسم ملامحه وتفاصيله بأشكالٍ مختلفة، فإذا ما قلنا مع ماركس إن التاريخ يعيد نفسه في المرّة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة، يمكننا الإضافة والقول إن تاريخ لبنان المعاصر تخطّى مرحلة تكرار مأساة المرّة الأولى، وعاد وتخطّى تكرار مهزلة المرّة الثانية، وبقي في مآزقه من دون أي تجديد. وها نحن اليوم نشاهده يتخطّى تكرار المرّة المائة، لربما أكثر، من دون أن تتغير تفاصيل المشهد.
كل هذه المراوحة في الفراغ والانتظام، وها هم اللبنانيون يشاهدون التاريخ وقد توقف عن السير، لاستحالة وجود أي قوة دافعة يمكنها أن تحرّكه، ولا سيما غياب التسويات الدولية التي عوّدتنا السلطة اللبنانية وقواها الامتثال لأوامر أطرافها. كذلك فإن اللبنانيين يعيشون الفراغ اليومي الناجم عن عدم القدرة على إيجاد أية وسيلةٍ تستطيع انتشالهم من هذه الحالة الكارثية التي يحيونها، فاللبنانيون الناجون من أتون الانهيار، حتى اللحظة، يعيشون حالةً مستمرّة من تكرارٍ يشي بعطبٍ في بنية الدولة وديناميتها، وكأن لبنان المعاصر آلة ميكانيكية تعاني من عطب العودة الدائمة إلى البداية بعد دقائق من التشغيل.
لم تكن حالات الفراغ التي تحكم لبنان منذ انتفاضة 17 أكتوبر (2019)، والتي تمدّدت الأحداث بعدها، فتحوّلت إلى حالة مراوحةٍ ناجمةٍ عن غياب مقايضةٍ ما، هي الوحيدة في عهد ميشال عون الأخير. سواء أكان على نحو مقايضة الإفراج عن تشكيل حكومة نجيب ميقاتي، مقابل وصول جبران باسيل إلى موقع رئاسة الجمهورية، أم المراوحة المستمرّة للبلاد قبل ذلك، فكانت أكثرها حضورًا في أذهاننا تلك التي استمرّت حوالى السنة، حين توقف تشكيل الحكومة مقابل فرض توزير جبران باسيل. كذلك لا يمكننا نسيان الفراغ الدستوري الآخر الذي فرضه حزب الله، حين علّق استحقاق رئاسة الجمهورية بانتظار الإتيان بحليفه عون إلى سدّة الرئاسة الأولى، إلخ.
اللبنانيون الناجون من أتون الانهيار، حتى اللحظة، يعيشون حالةً مستمرّة من تكرارٍ يشي بعطبٍ في بنية الدولة وديناميتها
كلها حلقات مستمرّة من فراغ متعدّد الأبعاد لم يوجد مصادفة، إذ ترافقت معظمها مع الحالة السياسية العونية وفرط الشخصانية في الحكم. فبمجرد إمعان النظر، تعيدنا الذاكرة إلى الفراغ الناجم عن احتلال وسط بيروت الذي فرضه حزب الله وحليفه عون لمحاصرة حكومة فؤاد السنيورة يومها، من دون أن يفضي إلى أي شيء باستثناء غزوة بيروت في 7 مايو/ أيار 2008 التي أعلن حزب الله بعدها أن فراغ الاستحقاقات بات سمة الدولة في المقبل من الأيام، وسمة الحالة السياسية عند كل منعطف تكون إيران محشورة فيه، وسمة كل خلاصةٍ ليست في خاطر الحزب، ولا في صالح حلفائه. فعلى سبيل المثال، التزم تحالف قوى 8 آذار (عون وحزب الله وحركة أمل) بنود اتفاق التسوية الذي استضافته الدوحة بعد غزوة 7 أيار، فانتخبوا ميشال سليمان لرئاسة الجمهورية، إلا أنهم سرعان ما انقلبوا على بقية البنود، فأفرغوا التسوية من مضمونها، لأن سليمان لم يكن طيّعًا في يدهم، ولا سيما عند محاولاته الطامحة إلى إعلان حياد لبنان عن كل الصراعات بين المحاور الإقليمية، بما يخالف دور الحزب في مواجهة الثورة السورية دفاعًا عن الأسد ونظامه، وبما يعارض رغبة الحزب وتدخلاته في دول الخليج العربي لمصلحة إيران وطموحاتها التوسّعية ومصالحها وملفها النووي.
أما إذا عدنا قليلاً إلى ماضي نهايات الحرب الأهلية اللبنانية، فيمكننا معاينة كيف عرقل عون إمكانية إيجاد الحلول طمعاً في موقع رئاسة الجمهورية، بعدما كلّفه الرئيس أمين الجميّل المنتهية ولايته آنذاك رئاسة الحكومة الانتقالية، فاستمرّ عون في إنتاج فراغ دستوري لم يخلُ من بطولات وهمية، وملاحم أسطورية كانت خلاصتها حوالى 50 دقيقة صمود قبل دخول جحافل الاحتلال السوري وحلفائه من مليشيات بيروت الغربية إلى مناطق بيروت الشرقية يوم 13 أكتوبر/ تشرين الأول 1990. ففي ذلك اليوم، كلّف فعل التنطّح العوني سقوط القصر الجمهوري على جثث ودماء ومصير الآلاف من عناصر الجيش اللبناني وضباطه من الشهداء، أو ممن خُطفوا وأُخفوا، وما زال مصير معظمهم مجهولاً، وخصوصًا الذين اقتيدوا إلى أقبية السجون السورية، حليفة عون وحزب الله اليوم. هؤلاء الجنود الذين كانوا يقاتلون تحت لواء عون، قبل أن يفرّ هارباً إلى السفارة الفرنسية، تاركاً عائلته وجيشه خلفه. يومها أيضاً، كانت خلاصة مرحلة فراغ هيمنت على البلاد، وكانت نهاية مرحلة حاول فيها عون إبقاء لبنان تحت وطأة حروب مختلفة، خاضها في بيروت الشرقية باسم حرب الإلغاء، وعلى بيروت الغربية باسم حرب التحرير. وكلها لم تؤدِّ إلا إلى إطالة عمر الفراغ الجمهوري، وإلى تدمير البلد أكثر مما كان مدمّراً في الحرب الأهلية، وتركت فراغاً مسيحياً حاول البطرك صفير أن يملأه.
انهيار وفراغات لم يستطع عون تشبيهها بشيء إلا "بجهنم". وهي، ربما، المرّة الوحيدة التي كان على صواب فيها
أما اليوم، فبالإضافة إلى تفريغ أوسمة الجمهورية من مضمونها، بعد أن أخذ عون في الأسبوع الأخير من عهده توزيعها بمعظمها على الذين يسيرون في خطه السياسي، لربما يمكن الترميز إلى حالة الفراغ العونية بجسر ممتد يربط بين مرحلة فراغ دستوري انتهت عام 1990 بخروج عون من قصر بعبدا ومن البلد، ومرحلة عودته من فرنسا التي تكلّلت بتفريغ دستوري جديد بدأ منذ ست سنوات عند عودة دخوله إلى القصر نفسه.
هذا غيض من فيض الممارسات التي تجعل اللبنانيين في حيرة من أمرهم أمام توصيف الحالة السياسية العونية ومحاسبتها، فإما تحاسب شخصانية ومصلحية العمل السياسي التي تهيمن على الذهنية العونية، وإما تحاسب مراحله وممارساته المختلفة سواء في رئاسة الجمهورية، أو في قيادة الجيش، أو في المعارضة، أو في قيادة الحكومة الانتقالية.
بالفعل، يحتار اللبنانيون اليوم بين الشعور بالفرح مع قرب انتهاء عهد عون والشعور بالغصة والخيبة جرّاء تذكّر الفراغات المتعدّدة التي أنتجها، والانهيار الذي يتحمّل عون وكل قوى السلطة مسؤوليته. انهيار وفراغات لم يستطع عون تشبيهها بشيء إلا "بجهنم". وهي، ربما، المرّة الوحيدة التي كان على صوابٍ فيها.