ميزان الجمال المائل
كنت أحبّ الدراما السّورية، لأنّها كانت حقيقية في بساطتها، ولجمالها الإنساني. نساؤها حقيقيات غير مرتديات أقنعةً ولا يفتعلن أداء، مقارنة مع الدراما التي كانت تحت تأثير فكرة النّجومية، التي تسمح للنّجمات أن يظهرن كما يحببن، فهنّ سواء في مشاهد الفقر والمرض والنوم، كما هنّ في الفرح والرخاء، الماكياج حاضر بقوة، والأداء المسرحي غالب.
في وقت كنتَ تتساءل فيه كيف يهضم أي عمل ممثلة مثل صفية العمري، بكل مبالغاتها؟ حتى في "ليالي الحلمية" الذي مثلت فيه دور سيدة أرستقراطية، ما من سيّدة تشبهها في الواقع. كأن التمثيل هو المظهر الجيد والصّوت والوقفة الصّحيحة. في المقابل، عندما تقدّم منى واصف دور سيّدة من المجتمع المخملي تشعر بأنّها ولدت كذلك.
لم أُعد أشاهد المسلسلات العربية، لتكرار مواضيعها التي غرقت في الاجتماعي، منتقلة من مشكلات العائلة الكبيرة، والصراع حول المال والسطوة، إلى مشكلات الأسر والعلاقات الزوجية. مع ميل صريح إلى الصراخ والمبالغات، والانتقال المتطرّف من ثراء الفلل الفاخرة إلى الفقر المبالغ فيه، بضجيجه. كأن المعنى يكمن في الصّوت. كأنّ صناع هذه الدراما يعيشون في زمن التمثيليات الإذاعية. وهو ما تفعله الدراما المغربية التي تمشي على المنوال نفسه بالضبط.
من المشاهد المقتطفة من المسلسلات التي تظهر في المنصّات، أفزعتني ملامح عدة ممثلات سوريات عرفتهن منذ عقدين. كانت بعضهن في العشرين، وهن الآن في الأربعين، لكن ما فعلته عمليات التشويه بهن مخيف، فيظهرن كنساء تجاوزن الستين بذوات رافضة لواقع تغيّر ملامح الجسد الذي يتجه بشكل طبيعي وتدريجي نحو الشيخوخة. يُخفين التجاعيد، لكن العمر يبقى منيعاً على المحو، فالجمال لا يكمن في أنفٍ منحوت، أو خدود منفوخة أو وجه مشدود. الجمال أعقد وأبسط في الوقت نفسه، وقليلاً جداً ما تصنعه عمليات التجميل.
الأسوأ أن بعضهن يقعن في أيدي جزارين يصنعون منهن نسخا مشوّهة، فالأنوف الطبيعية التي كانت جميلة ومتناسقة مع بقية الوجه صارت نتوءات منفّرة، والشفاه التي كانت تنفتح بسلاسةِ وردة، صارت شفّاطات وقطع مطاط. ماذا حدث لهن في هذه السنوات حتى صرن هكذا؟
لقد حدث التشويه على مراحل، قادت فيها نتيجة غير مرغوبة إلى أخرى ثم غيرها، حتى تحولت وجوههن إلى لوحات سوريالية. وأولى الممثلات اللواتي ظهرن وهُنّ غيرهنّ، لا أنفسهن، ممثلات الدراما الخليجية التي دخلتها سوسة العمليات مبكّراً. ثم عمت بعد بضع سنوات، ضاعت فيها ملامح معظم الممثلات في مسلسلاتٍ تفقد أصالتها مع الوقت، بدل أن تنضج.
وعلى مساوئ "هوليوود"، تفرض شروط التمثيل فيها على الممثلات الحفاظ على ملامحهن الطبيعية، فتمنح بطولات كاملة لممثلات قد يراهنّ بعضهم عاديات المظهر. وقل عدد الفاتنات فيها عن الماضي، حين كان الجمال الصارخ شرطاً ضرورياً للممثلات اللواتي كن أيضا جامدات، وشديدات القولبة.
لن أتحدّث عن سوسة المؤثرات اللواتي لا يمانعن في استعمال الفلتر، وهو أحطّ درجة في درجات الأقنعة التي اخترعتها الماكينة الاستهلاكية، ثم ينحت جزّار ما وجوهَهن بناء على الفلتر، كأنّهن دفاتر رسم طفوليّة. كيف لا تُصبح ممثلاتنا هكذا، وهنّ ضحايا نمط استهلاك يسوّق معايير مشوّهة لما هو جميل وثمين في الإنسان. فما بالك برأسمال ممثل وهو جسده بما فيه الوجه والخصر وما بينهما، ويفرّط فيه. بينما أمنت جينفر لوبيز وأخريات على جزء معيّن من أجسادهن، يعتبرنه مصدر الرزق والنجاح الجماهيري، بملايين الدولارات. أصبحت عمليات التجميل الحدث الفني الأبرز في مسار الفنانات في كل المجالات. لن أقدّم نماذج مثل دنيا بطمة أو حليمة بولند، فهما أعقد من هذا الحديث، بل أشير إلى أصالة التي صنعت منها العمليات امرأة أخرى مرّتين. إلى حد أنها لو كانت هاربة من العدالة لما غيّرت وجهها بشكل جذري هكذا. ... لكن لو كان العطّار يُصلح ما أفسده الدهر، لما تشوّه وجهها الثاني، واضطرّت إلى ارتداء وجه ثالث، الوجه الذي تمدحها عليه زميلاتها، بينما يفتقد للتناسق والملاحة، خاصة عندما تتحدّث أو تغني، حيث يميل وجهها مثل مركبٍ يوشك على الغرق.