مونديال قطر يصفع دبلوماسية إسرائيل الرقمية
ليس من المبالغة القول إن الفلسطينيين من أكثر الشعوب فرحًا وسعادة بمونديال قطر 2022، ليس فقط لأن قطر أول دولة عربية ومسلمة تستضيف المونديال، بل أيضا لأنَ هذا الحدث العالمي أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة، وكشف عن زيف ادّعاءات "إسرائيل" عن نجاحها في التغلغل في الوعي العربي، والحصول على القبول من شعوب عربية عديدة، سيما بعد تطبيع بعض الأنظمة الخليجية والعربية علاقاتها مع الاحتلال.
سعادة الفلسطينيين تُرجمت بإغراق صفحاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي بمشاهد ومقاطع فيديو من قطر، تثلج صدورهم وتُعيد الأمل في نفوسهم بعدما ظنوا، كل الظن، أن العرب تناسوا قضيتهم بالفعل، وتركوها خلف ظهورهم.
ألم تعمل الآلة الدعائية الإسرائيلية عبر المنصات الرقمية الناطقة بالعربية على تسويق واقع جديد للشعوب العربية، وتصويرها أنها ملَت من "بكائيات" الشعب الفلسطيني وقضيته التي لا تجد حلاً. منذ عقد ودولة الاحتلال تستثمر في دبلوماسيتها الرقمية عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بغرض تجميل صورتها عربيًا، والحصول على القبول لدى العرب الذين لطالما نظروا إلى "إسرائيل" أنها العدو الأول لهم وللفلسطينيين. كان التوجّه إلى الاعلام الرقمي الحل الأمثل أمام الاحتلال للتواصل مع الشعوب العربية، بعد أن عجز عن فعل ذلك بطرق أخرى. وبعد اتفاقيات أبراهام، كثّفت اسرائيل من نشاطها الرقمي الموجّه إلى العرب عبر بث رسائل سياسية تمتدح التطبيع، وتدعو الدول العربية غير المطبّعة إلى اللحاق بقطار السلام مع "إسرائيل"، والتسويق له أنه أفضل الطرق وأقصرها لتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية للعرب والنهوض بدولهم علمياً وطبياً وتكنولوجياً.
تعرّض إسرائيليون عديدون للرفض والإنكار من سائقي سيارات الأجرة وفي المطاعم والكافيهات، حيث كان العرب يرفضون التعامل معهم بأي شكل
وحتى وقت قريب، تعمّدت تلك المنصّات سيما الخاصة بالقادة السياسيين والأمنيين والعسكريين الإسرائيليين، مثل صفحتي بنيامين نتنياهو وأفيخاي أدرعي، نشر صور ومنشورات تشير إلى العلاقات الدافئة بين الاحتلال ودول التطبيع، في محاولة لترويج واقع آخر، وإحباط الفلسطينيين، وزرع الفتنة بينهم وبين العرب. ولكن مونديال قطر جاء بما لا تشتهي سفن التطبيع، لقد أزال هذا الكرنفال الكروي القناع عما تروّجه تلك الصفحات، وتبشر الفلسطينيين بما كانوا بأمَس الحاجة إليه. العلم الفلسطيني والكوفية التي تُعد من رموز القضية، يملآن مدرّجات الملاعب في قطر، يرفع العرب والعجم العلم الفلسطيني في الشوارع، أو يرسمونه على أياديهم ووجوههم، الشارات الدالّة إلى فلسطين تزين دشاديش رجال الخليج العربي وعباءات نسائهم. أما المشهد الأعظم؛ فكان رفض الشباب العربي التعامل مع الإعلام الإسرائيلي، والسخرية منه، ومواجهته بشعارات داعمة لفلسطين وأهلها.
ذاك الشاب اللبناني الذي أنكر وجود "إسرائيل" ردًا على المراسل الإسرائيلي الذي حاول محاورته خلال البث المباشر، وذاك الشاب المصري الذي ادَّعى في البداية أنه موافق على إجراء مقابلة مع صحافي إسرائيلي خلال رسالة على الهواء، ليباغته بالقول مبتسما "تحيا فلسطين"، بينما كان الصحافي يتحدّث بفرحة عن وجود نموذج عربي يقبل الاحتلال والتعايش معه، وذاك الشاب القطري الذي أشاح بوجهه فورًا عن الكاميرا حينما علم أن الصحافي الذي يحادثه إسرائيلي، وأولئك الشبان السعوديون الذين رفضوا الحديث مع صحافي آخر، ونماذج أخرى كثيرة، كانت جميعها صفعة لـ "إسرائيل" التي عبرت في إعلامها عن صدمتها من هذا كله. وهكذا قطع العرب على دولة الاحتلال أي محاولاتٍ لتزييف مزيد من الحقائق، وكذّبوا القادة الإسرائلييين الذين يتفاخرون، عبر الإعلام الرقمي، بإنجازاتهم التطبيعية مع العرب، وبأنَ الشباب العربي يقبل بالتعامل مع دولة الاحتلال، ويعتبرها "الجار الصديق، المحب للسلام والعرب".
وبعيدا عن عدسات البث المباشر، تعرّض إسرائيليون عديدون للرفض والإنكار من سائقي سيارات الأجرة وفي المطاعم والكافيهات، حيث كان العرب يرفضون التعامل معهم بأي شكل، وهو ما جعلهم يشعرون بأنهم منبوذون وغير مرحّب بهم. مشاهد التنكر للإسرائيليين في قطر والدعم للفلسطينيين في المقابل تتماشى مع الأرقام التي صدرت من معهد واشنطن للأبحاث هذا العام، وأشارت إلى وجود معارضة كبيرة من الجماهير العربية للتطبيع مع دولة الاحتلال، لعل أبرزها تلك المتعلقة بالإمارات والسعودية والبحرين، حيث رفض أكثر من 70% من شعوب هذه الدول الخليجية القبول بدولة الاحتلال أو تطبيع العلاقات معها. وهذا يدل على الرفض الشعبي لتطبيع الأنظمة مع الاحتلال وسعة الهوة بين الطرفين.
فعل المونديال أفضل الممكن، أظهر حقيقة الشعوب العربية ودورها في مساندة الفلسطينيين ونضالهم الوطني
في الواقع، كان يأمل الاحتلال بالحصول على نتيجة أخرى! قبيل إنطلاق المونديال أوفدت "إسرائيل" عشرات من ممثلي الصحافيين إلى قطر لجسّ نبض الشعوب العربية عن قرب؛ فانتشر هؤلاء بين العرب لاختبارهم. اعتقدوا، وهم الذين يمثلون سياسة دولتهم بكل تأكيد، أن تأثيرا للتطبيع سيكون على الشعوب العربية التي سترحب بهم، وتقبل الحديث معهم بكل حب وسرور. لكن التجربة فشلت فشلاً ذريعاً، وفي بث حي ومباشر، شاهد الجميع فشلها، بما في ذلك الجمهور الإسرائيلي، الذي حاولت قيادته خداعه أيضاً بأن العرب على استعداد لقبول الاسرائيليين في المنطقة.
عودة بالزمن، كان الفلسطينيون قد أصيبوا بإحباط شديد بعد توقيع بعض الدول العربية اتفاقيات التطبيع مع دولة الاحتلال قبيل سنوات. ظنّوا بعدها أن قضيتهم لم تعد تهم شرائح واسعة من العرب الذين كانوا سندًا لهم طوال 70 عامًا؛ فأتى مونديال قطر ليشفي صدورهم. ما يحدث داخل قطر دليل راسخ على أن القضية الفلسطينية كانت وما زالت القضية الأولى للعرب والمسلمين، وأن ما يحدُث من محاولات إسرائيلية يائسة للتطبيع مع الدول العربية يقتصر فقط على تطبيع الأنظمة لا الشعوب، أي أن محاولات تزييف الوعي العربي واقتلاع فلسطين من قلوب العرب غير واردة، مهما طبّعت الأنظمة.
ختاماً، ليس مونديال قطر حدثًا رياضيًا عالميًا وحسب، بل هو ساحة للاستثمار السياسي والوطني والديني والثقافي، ومساحة تقرَّب بين الشعوب وتتيح المجال للتعارف بينها. بالنسبة للفلسطينيين، فعل المونديال أفضل الممكن، أظهر لهم حقيقة الشعوب العربية ودورها في مساندة الفلسطينيين ونضالهم الوطني في مواجهة أطول احتلال في التاريخ المعاصر، مثلما وجَّهَ صفعة قاسية لدبلوماسية إسرائيل الرقمية التي تروج منذ سنوات قبولا عربيا واسعا لـ "دولة إسرائيل". لقد سقط الرهان وخاب الأمل. فلسطين باقية في قلوب العرب وعقولهم... هذا ما يقوله مونديال قطر.