مونديال قطر والعلاقات العربية العربية

12 ديسمبر 2022
+ الخط -

بمجرّد انطلاق فعاليات مونديال قطر في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، نجحت الدوحة في كسر "الأجواء النمطية" في العلاقات العربية العربية، وذلك عبر حفل افتتاحٍ مبهر انطوى على رسائل ثقافية وحضارية وأخلاقية، على نحو أبرزَ مصادر "القوة الناعمة" التي تحوزها دولة قطر، وتناغم أدواتها الدبلوماسية والرياضية والإعلامية والثقافية والاقتصادية؛ إذ قدّمت مثالًا يُحتذى في كيفية العمل على تحسين العلاقات العربية وحلّ الخلافات، وإمكانية تحقيق نجاحاتٍ عربية، على الرغم من استمرار قيود البيئة الخارجية وضغوطها، (سواء إبّان سنوات حصار قطر، أم في مواجهة حملات التشويه التي ازدادت كثافتها في الشهور الماضية، من دون أن تثني الدوحة عن مسارها).
وفي إطار تقييم انعكاسات استضافة قطر مونديال 2022 على العلاقات العربية العربية، ثمّة سبع ملاحظات؛ أولاها تتعلق بحُسن قراءة النخبة القطرية كيفية التأثير في المشهدين، العربي والعالمي، وفعالية النهج الدبلوماسي "المبادِر" للدوحة؛ إذ نجحت استضافة المونديال في "تبريد" الخلافات السياسية العربية، باستخدام أدوات/ مداخل رياضية وثقافية واقتصادية، ما أدّى، ولو مؤقتًا، إلى إذابة الجليد في العلاقات السياسية العربية والإقليمية. وبدا واضحًا كيف أثمرت مثابرة الدوحة، وتوجيهها دعوات حضور حفل افتتاح المونديال لقياداتٍ عربية وأفريقية وازنة، في تعزيز مناخ "التهدئة الإقليمية"، وإبراز أجواء التقارب العربي والإقليمي، كما ظهر من ثلاثة مؤشرات؛ أولها رعاية قطر مسار التقارب المصري التركي، والمصافحة بين الرئيسين رجب طيب أردوغان وعبد الفتاح السيسي، على هامش افتتاح المونديال. ثانيها زيارة رئيس الإمارات، محمد بن زايد، قطر، وإشادته بنجاحها في تنظيم هذه البطولة العالمية. ثالثها نتائج القمة الخليجية الثالثة والأربعين في الرياض (9/12/2022)، وإشارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان إلى إطلاق مرحلة ثانية لتعزيز تطوير العمل الخليجي، ما يعني تحليليًّا احتمال "عودة الروح" إلى مجلس التعاون لدول الخليج العربية، بعد تجاوزه تداعيات أزمة حصار قطر.

الفوائد/ الحصيلة الاقتصادية من استضافة المونديال ليست مقصورة على قطر، على الرغم من تحمّلها، منفردةً، كل الكلفة الاقتصادية على مدار 12 عامًا خلت

تتعلق الملاحظة الثانية بما كشفته خبرة الدوحة واستثماراتها الذكية في تنظيم المونديال، من "دور العامل الاقتصادي" وأهميته الفائقة، في خلق/ تعزيز أسس مصلحية للتقارب العربي العربي، على نحو ما ظهر من انتعاش الرحلات الجوية وتنشيط حركة الأسواق والمقاهي والمطاعم والمحلات المختصة بالتجهيزات الرياضية في عدة بلدان عربية، (مثل مصر والأردن والعراق والإمارات والسعودية)، ما يؤكد أن الفوائد/ الحصيلة الاقتصادية من استضافة المونديال ليست مقصورة على قطر، على الرغم من تحمّلها، منفردةً، كل الكلفة الاقتصادية على مدار 12 عامًا خلت. وهذا يعيد تأكيد أهمية المدخل/ الاقتراب الوظيفي المتخصّص، في دعم العلاقات العربية البينية.
تتعلق الملاحظة الثالثة بوصول الإشارات الرمزية التي أرسلتها قطر إلى المشجّعين العرب، سيما ما يتعلق بابتهاج القيادة القطرية بأداء المنتخبات العربية في المونديال، والحرص على دعمها معنويًّا بحضور المباريات، والتوشّح بأعلامها، ومشاركة الجماهير أفراحها ومشاعرها، وإتاحة مساحات واسعة لحرية التعبير وتلاقح الثقافات على أرض قطر، (في درب لوسيل وسوق واقف وحديقة البدع)، على هامش هذا الحدث الرياضي العالمي، ما أثمر نجاحًا في إشاعة حالة من "العروبة الناعمة" و"التضامن العربي الوجداني"، واستقطاب الإعجاب بالنموذج القطري الناجح في التعامل مع التحديات والصعوبات. 
تتعلق الملاحظة الرابعة بخروج فلسطين "رابحة" في هذا المونديال، والتأكيد على مركزية قضيتها في وعي/ إدراك الشعوب العربية، مقابل "عزل" دولة الاحتلال الإسرائيلي، وإظهار هشاشة/ تهافت التطبيع العربي الرسمي معها. وهذا يؤكّد صحة استنتاجات "المؤشّر العربي" الذي ينجزه سنويا المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، التي تكشف شبه إجماع لدى المستجيبين عن أسئلة المؤشّر على رفض اعتراف بلدانهم بإسرائيل، وبنسب شبه ثابتة منذ استطلاع المؤشّر الأول في عام 2011 وحتى عام 2020، وتصل النسبة إلى نحو 87% في الحد الأعلى، في مقابل 9% فقط وافقوا على أن تعترف بلدانهم بإسرائيل. ويتسق ذلك مع معارضة المواطنين العرب اتفاقيات السلام، التي عقدت بين إسرائيل وأطراف عربية، وتقديرهم أن إسرائيل هي الدولة الأكثر تهديدًا لأمن الوطن العربي.

تنظيم قطر المونديال أدّى إلى تحفيز تفاعلات البعد الشعبي/ الجماهيري العربي، وإشاعة "مناخ نفسي إيجابي"، يُشجّع على تفاعلات عربية "صحية"

واستطرادًا، يبدو أن قدرة إسرائيل على اختراق العالم العربي، وتوظيف الصراعات العربية البينية، تتآكل كلما تآكلت مفاعيل سياسات محور الثورات المضادّة، وكلما ازدادت مساحة حضور البعد الشعبي/ الجماهيري العربي، ولذلك لم تستطع إسرائيل تحقيق "اختراقات تطبيعية" على هامش المونديال، كما كانت تأمل، بل جرى عزلها شعبيًّا وجماهيريًّا، في ردٍّ غير مباشر على سياسات التطبيع الرسمية العربية، سيما حرص الرئيس الإسرائيلي، إسحاق هيرتسوغ، على زيارة البحرين والإمارات أخيرا، في محاولة لتنشيط سياسات التطبيع. 
تتعلق الملاحظة الخامسة بأن تنظيم قطر المونديال أدّى إلى تحفيز تفاعلات البعد الشعبي/ الجماهيري العربي، وإشاعة "مناخ نفسي إيجابي"، يُشجّع على تفاعلات عربية "صحية"، ويعيد الثقة إلى "الذات العربية"، في إطار مختلف كليًّا عن الأجواء النمطية العربية المعتادة؛ فقد أسهم إنجاز المنتخب المغربي وصعوده إلى الدور نصف النهائي، في كسر "الحاجز النفسي"، وتأكيد أن العرب قادرون على تنظيم بطولة ناجحة، وحجز مقعد ضمن الأربعة الكبار كرويًّا. ويبدو أن تطلّع الجماهير العربية إلى إنجازات وانتصارات، لكسر أجواء الحروب والصراعات المستعرة في غير مكان في العالم العربي، قد شكّل دافعًا لمؤازرة المنتخبات العربية في البطولة، وأنعش حالة من الشعور بالانتماء إلى أمّةٍ واحدة ومصير مشترك. 
تتعلق الملاحظة السادسة باحتمال بروز أدوار ثلاثي الجزائر والكويت وقطر، في المدى المنظور، في تحسين العلاقات العربية البينية، بما قد يشكّل نقطة جذب/ نواة عربية لدول أخرى كي تتقارب مع سياسات هذا الثلاثي، الذي يمتاز بدبلوماسيته النشيطة في الدفاع عن قضية فلسطين، وابتعاده عن التطبيع مع إسرائيل، استنادًا إلى عوامل قوة داخلية اقتصادية، وإدراكه أن مكانة دول هذا الثلاثي لا تتحدّد، ناهيك أن تزيد، عبر العلاقة مع دولة الاحتلال. ولا شك في أن قوة هذا الثلاثي يمكن أن تتعزّز كثيرًا، في حال حصول تحسّن في أوضاع إحدى الدول العربية المحورية، سيما مصر والسعودية، وانكفائها عن سياسات التطبيع مع إسرائيل، وتعزيز علاقاتها الإقليمية والدولية بعيدًا عن سياسات المحور الأميركي/ الإسرائيلي، الذي ما انفكّ يستنزف العالم العربي، ويزجّه في صراعات بينية وداخلية تستهلك طاقاته وقدراته وموارده.

توسيع مساحات الحرية في العالم العربي سيخرج من الشعوب العربية إيجابياتها ويظهر صورتها الحقيقية أمام العالم

الملاحظة الأخيرة أن ثمّة إمكانية لإيجاد حلول للصراعات العربية البينية، في حال تكثيف جهود التعاون وامتلاك رؤية استراتيجية تُحْسن تقدير "المصلحة العربية في التعاون"، وعزل النخب والشخصيات التي تعمل على تأجيج الصراعات العربية والتحريض الإعلامي، تحقيقًا لمكاسب سياسية آنية أو شخصية. ولعل هذا يؤكّد أهمية تعزيز دور الجامعات والمؤسسات العربية ومراكز الأبحاث، في البحث عن حلول واقتراح بدائل أمام صانع القرار، بدلًا من الدور التقليدي في "تبرير السياسات" دون اضطلاعها بأية وظيفة نقدية/ تطويرية لتعزيز العمل العربي المشترك، في مواجهة التحديات المتصاعدة.
وعلى الرغم من قابلية العلاقات العربية العربية للانتكاس مجدّدًا، فإن توسيع مساحات الحرية في العالم العربي سيخرج من الشعوب العربية إيجابياتها ويظهر صورتها الحقيقية أمام العالم، بعد أن أنهكتها الصراعات الطويلة التي تفاقمت بسبب تأجيج أغلب النظم العربية، على مدار عقود، الصراعات، واستخدام أدوات التحريض والحملات الإعلامية والدعاية الكاذبة، وصولًا إلى الحصار الاقتصادي والتهديد بشنّ الحرب، وانتهاءً بالاستخدام غير المدروس للأدوات الأمنية/ الاستخبارية/ العسكرية، بكل مخاطرها على النسيج المجتمعي العربي.
يبقى القول إن تنظيم قطر مونديال 2022، ونجاحه اللافت، سيكون لهما تداعيات مهمة على تحسين صورة العرب في العالم، ربما على نحو يشابه تأثير الثورات العربية عام 2011، ما سيؤدّي، في المحصلة النهائية، إلى إجهاض حملات التشويه والدعاية الكاذبة التي تستهدف، في جوهرها، الهوية والشعوب العربيتين، ما يضع العالم العربي أمام فرصةٍ حقيقية، ويؤصّل لـ"ربيع عربي جديد" طال انتظاره.

C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
C74992A8-A105-4EE2-85DA-EDD34A643EDE
أمجد أحمد جبريل

باحث فلسطينيّ مُتخصِّص في الشؤون العربية والإقليمية، له كتاب عن "السياسة السعودية تجاه فلسطين والعراق"، صادر عن مركز "الجزيرة" للدراسات، وعدد من الدراسات المحكمة المنشورة في الدوريات العلمية.

أمجد أحمد جبريل