موسيقار الأجيال معلّم المعلمين
توفي، في مثل هذه الأيام، قبل 32 سنة، الموسيقارُ العبقري محمد عبد الوهاب، بعدما غنّى، وهو متجاوزٌ سنَّ الثمانين، "من غير ليه"، وفيها توكيد على أن لقب "موسيقار الأجيال" أكثرُ الألقاب التي أطلقت عليه تعبيراً عنه، فالرجل عاش 89 سنة، أمضى جُلَّها في الغناء والإبداع الموسيقي، يأنس لغنائه وألحانه الملوكُ، والأرستقراطيون، وأبناءُ الطبقة الوسطى، ومختلفُ فئات الشعب الأخرى، من مختلف الأجيال.
كان عبد الوهاب، وما يزال، يملأ الدنيا، ويشغل الناس بسيرته، فهو سيدُ من أمسك عوداً وغنّى موالاً، باعتراف الموسيقار عبد العظيم عبد الحقّ الذي كان يخاصمه. والذي قال، في مقابلة تلفزيونية، إن عبد الوهاب أخذ لحنه لأغنية حورية حسن "والله عليَّ دين"، ووظفها في ثنايا أغنيته "أنا والعذاب وهواك" وتحديداً في كوبليه "أهل الهوى مساكين"، من دون ذكر مصدرها. يفسّر محسوبكم إقدامَ عبد الوهاب على هذا العمل، أنه كان يعيش مع الموسيقى الشرقية والموسيقى العالمية، ليلاً ونهاراً، وهو يوضح، في مقابلة مع مفيد فوزي، أن أذنه كانت تلتقط لحناً، في أي وقت من النهار، فيهرع إلى غرفته، ويسجّله على ورقة، إلى أن يحين وقت تلحين أغنية جديدة، فتنساب تلك الألحان فيها، وأغلب الظن أن ألحان المبدعين الآخرين التي تطربه كانت تستقر في عمق وجدانه، فينسى مصدرَها، هذا على الرغم من أنه يعترف للآخرين بروعة إبداعهم، بدليل ما يقوله العبقري الآخر بليغ حمدي، في معرض حديثه عن فريد الأطرش، قائلاً "كاذبٌ مَن يقول، في جميع المراحل اللي فاتت، ومن أكبر موسيقي حتى أصغر موسيقي، إنه لم يتأثر بفن فريد الأطرش الشعبي"، ويضيف، حرفياً: أنا لما كنت صغيّر، وكنت هاوي مزّيكا، بهرني لحن كان فريد عامله، اسمه "أنا واللي بحبّه"، وأقول، وعلى مسؤوليتي، إن الأستاذ محمد عبد الوهاب عرض على فريد الأطرش، في جلسة خاصة، أن يعطيه ألحان عشر أغان، يسجّلها فريد باسمه، مقابل أن يعطيه فريد لحن أنا واللي بحبّه".
قلما كان عبد الوهاب يفخر بنفسه، ولكن عبارته "أنا أسقي الحروف إحساس" بالغة الدقّة، فألحانه مثل منحوتاتٍ مطلية بالذهب، وإذا أردنا تحديد مركزه، بدقّة، نقول: إذا أراد امرؤٌ رسمَ دائرة للنهضة الموسيقية الغنائية، التي امتدت على ثلاثة أرباع القرن العشرين، فإن نقطة تمركز "الفرجار" لتحديد مركزها، محمد عبد الوهاب... فالرجل لم يكن مغنّياً وملحناً فقط، بل موجّهاً، ومرشداً، وأخاً أكبر لكل أولئك النجوم الذين كانوا يتلألأون حوله... إنه المعلم الذي اكتشف عبد الحليم حافظ، من خلال أغنية يا "تبر سايل بين شطّين"، من ألحان محمد الموجي، وأوصى به مسؤول الموسيقى في الإذاعة حافظ عبد الوهاب، ثم لحن له، وأصعده، ورعى ليلى مراد، ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد، وشادية، ولحّن لفيروز، ووديع الصافي، وشهرزاد، ونور الهدى، ومحمد عبد المطلب.
لم يكن عبد الوهاب يتهيّب الدخول مع العباقرة الكبار في غِلَاب، فحينما دُعي ليلحن لأم كلثوم أول مرة، في مطلع الستينات، لم يكترث لكون اثنين من العباقرة سبقاه إلى صنع مجدها الذي لا يُطَاوَل، أقصد زكريا أحمد ورياض السنباطي، بالإضافة إلى المجدّد الكبير محمد القصبجي، فكانت رائعته "إنت عمري" تمثّل "لقاء السَحاب" بينهما.. وأذكر، كيلا أنسى، أنه كان يقدم المشورة لمن يطلبها منه، بدليل أنه اقترح على محمد الموجي أن يُنزل طبقة اللحن، في أثناء بروفات "اسأل روحك"، لأن صوت أم كلثوم، وقد تجاوزت الستين، ما عاد قادراً على حمل الطبقات العالية، مثلما كانت في صباها، وهو الذي استجاب لدعوة الفتى اليافع محمد سلطان، وزاره في بيته، ما أدهشَ والدةَ محمد حينما رأته فهتفت: الله! الأستاذ محمد عبد الوهاب في بيتنا؟ ده احنا زارنا النبي.
رحمك الله، أيها الهرم الرابع.