موجز من طنجة

12 ديسمبر 2014

بيوت ومنازل في طنجة (Getty)

+ الخط -

يقيم ابن بطوطة في ضريحه بين الناس، في أحد أزقة المدينة العتيقة في طنجة. يدهشك مكوثه في غرفة صغيرة مغلقة، بجانبها وحواليها منازل وبيوت، يخرج منها ساكنتها ويعودون إليها، بعادية طبيعية، فيما الرحالة الشهير نائم منذ أزيد من سبعمائة عام. لا طقوس خاصة بشأنه، ولا يحسب ضريحه مزاراً. هناك رجل لديه مفتاح باب الضريح، إن رغبت أن تدخل، يتيح لك ذلك. الجولة في السوق العتيقة، المتعددة النواحي والجهات، يحسن أن تكون كيفما اتفق، وإن ثمّة ما يشير إلى موقع منام ابن بطوطة. تجول عيناك في محلات الحوائج التقليدية، والأثواب والجلابيات المغربية، وتستطيب، إذا ما اخترت شيئاً للشراء، أن تدخل في مبارزة المفاصلة على السعر. وهذه كفاءة يحترفها قليلون، أشار إليها إلياس كانيتي، (نوبل 1981)، في "أصوات مراكش". تحتاج السوق بكل تفاصيلها إلى وقت طيب، لتقع على كل ما فيها، وتتعرف على هويتها المتصلة عميقاً بتاريخ الإنسان في هذا المكان. تلملم عيناك ما في وسعهما أن ترياه، في هذا المحل وذاك، في مطاعم شعبية، في زواريب بلا عدد. تحدث صديقيك، وهما صحبة طيبة، في كل هذه الأثناء، عن زيارة إلى طنجة، مررت فيها، قبل أزيد من عشرين عاماً، هنا.

ترى قدّامك، وأنت في مقهى الحافّة، الآسر البهيج بلطافة عتاقته وبساطته، جبل طارق وأطرافاً من سبتة، وشيئاً من إسبانيا، فأنت في هذا المكان القصي في نقطة اتصال العالم العربي، وإفريقيا، بأوروبا. هنا، يلتقي الأبيض المتوسط بالمحيط الأطلسي. وهنا، في طنجة، تاريخ لمدينة خاصة، أغوت فنانين وكتاباً ورسامين وقصاصين من العالم، فأقام عديدون منهم فيها، وجادت قرائحهم فيها بنصوصٍ وروايات ومرويات مهمة. ولأن القديم الأصيل يؤاخي الحديث والجديد في هذه المدينة، الدولية على ما كانت في مقطع من تاريخها، والعالمية على ما يوحي سمتُها الظاهر، فإن أثرياء كثيرين يأنسون إليها، كما زوار محبون لكل المغرب، كما صاحب هذه الكلمات. وقد صنعت طنجة أسطورتها، وخرافتها أيضاً، الشفوية والمدونة، طوال عقود، غير أن أسرها في هذه الصورة، وفيها مقادير من المتخيل، ينزع عنها حقيقة أحوالها، كما هي، أو كما صارت على الأصح، ومن ذلك أنه بات يُصيبها ما يصيب المدن الكبرى، العربية وغيرها، والتي ينزح إليها ساكنة الأرياف والقرى والمدن الصغرى، وصارت أحزمة الفقر بادية في حوافها. وأظنه صدق محدّثي، سائق تاكسي شاب، في قوله إن كل مشكلات المغرب، الاقتصادية والاجتماعية، حاضرة بتركيز ثقيل، في طنجة والدار البيضاء وأغادير، أكثر من غيرها.

المدن ناسها أيضاً، ولا يليق أن تشغلنا عن هذا البديهي فرجتنا في أسواق طنجة، وسياحتنا (أو سياحة عيوننا على الأصح) في شواطئها، ومتعتنا بأطايب المطبخ المغربي فيها. والناس هنا (مليون نسمة ربما)، في غالبيتهم، ليسوا في دعة ظاهرة. ثمّة كفاح وشقاء باديان في المكان، وكدح من أجل العيش. وثمّة من يحدثك فيها أنه يحب بلده، لكنه غير راض عن حاله، من أول النهار إلى آخره، يكابد من أجل أن يعيش كريماً، ما أمكن.

أظنها اكتملت أسطورة طنجة وغوايتها، ليس فقط بما كتبه، فيها وعنها واستيحاء منها، بول بولز وتينيسي وليامز وجيروترود شتاين ومارك توين، ومحمد شكري وحسونة المصباحي وسعدي يوسف، وغيرهم كثيرون، بل، أيضاً، لأن لكل فتنة وغواية وخرافة عمرها. وأظنها عاديّة طنجة هي الأكثر وضوحاً الآن. تجولت في بعض أمكنتها، متخففاً من ذلك كله، مكتفيّاً بدفء من الروائي، بهاء الدين الطود، والشاعر محمد أحمد بنيس، وهما من أهل طنجة، فرأت عيناي مقاطع من مشهد أعرض، وإنْ من تفاصيله أن ابن بطوطة مرتاح في مثواه، في مسقط رأسه، بين الناس، لا بين الخرافات والخراريف.

دلالات
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.