مواطن 28 يناير
"الشعب يريد إسقاط النظام"... هكذا انطلقت هتافات الثوار في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011، ربما من أجل هذا الهتاف، جرى اعتبار الخامس والعشرين، رمزيا، يوم اندلاع الثورة، وليس موعدها الحقيقي في الثامن والعشرين، حين انضمّت جموع المواطنين إلى نشطاء الثورة والفاعلين الأساسيين على الأرض. ظهر الهتاف في الساعات الأولى من دخول ميدان التحرير، واستمر إلى اليوم الأخير، وإلى رحيل حسني مبارك الذي عدّه، تسرّعاً، أغلب المتظاهرين سقوطا لنظامه. كان هدف الثوار القضاء على "منظومة" من الاستبداد السياسي، والفساد الإداري، أو بالأحرى إدارة الفساد، وكان الظنّ "المراهق" أن مبارك هو كل شيء، يرحل و"يحلّها ربّنا"، فيما كانت دولة مبارك تعمل منذ اليوم التالي للثامن والعشرين من يناير على الهدف نفسه، كيف يمكن هزيمة هذه الثورة وسحقها، بحيث لا يعُد لها وجود، لا هي ولا من أشعلوها، والأهم تشويه مطالبها وربطها بكل معاني الخيانة الوطنية و"الحرام" الديني، وإبطال حججها، وإفقادها أسلحتها (وفق مفهوم الانتصار لدى المنظّر الأهم للحرب في العصر الحديث كلاوزفيتز). هكذا تحرّكت الدولة على الأرض، وعلى الورق، وعلى الشاشات. في محاولة مبدئية لهزيمة الثورة مع الإبقاء على مبارك، ثم الاعتراف بحقيقة ما يجري، وقوّته وإكراهاته، والتخلّص من مبارك ووريثه، والتركيز مع الثورة وفصائلها. فهل تحقّق هدف الثورة المضادّة؟
استعادت الدولة العميقة سلطة الحكم، وتوسّعت في امتيازاتها الاقتصادية عن وضعها في عهد مبارك، كمكافأة، إجبارية، على الانتصار على جماعة الإخوان المسلمين، انتصاراً نهائياً، بدأ بإفقاد الجماعة شعبيّتها، ثم سلطتها، ثم أسلحتها "السياسية". وكذلك فعلت مع فصائل الثورة كافة، لا شعبية، لا أسلحة سياسية، سجن واعتقالات وملاحقات وإخفاءات قسْرية أو قتل، وإعدامات، وتصفيات جسدية، أو على الأقلّ اغتيالات معنوية وتشويه للسمعة والسيرة والتواريخ، لئلا يكون هناك مستقبل، فهل فقد حقا أصحاب حلم التغيير مستقبلهم؟
كان من الممكن أن تكون الإجابة نعم، وبكل تأكيد، فشلت الثورة نهائيا، لو أن تجربة نظام ما بعد 3 يوليو (2013) نجحت في استرضاء المواطن.. مواطن 28 يناير (2011)، الذي جعل من تظاهرات نخبوية في 25 يناير ثورة مجيدة بعد هذا التاريخ بثلاثة أيام، ثم أدّى ما عليه صمودا في الميادين أمام آلة القتل، ثم عبّر عن إيمانه بالتغيير عبر ستة استحقاقات انتخابية بالمشاركة وإبداء الرأي، بصرف النظر عن اختياراته التي تحتاج إلى استكمال التجربة كي تزداد نُضجا، ناهيك عن أن الشعوب التي تمتلك تجارب ديمقراطية حقيقية وقوية وراسخة تُخطئ بدورها، (انتخاب دونالد ترامب في أميركا نموذجا فجّاً). لذا فالسؤال: هل هُزمت الثورة في وعي مواطن 28 يناير ووجدانه وإرادته؟
كلّنا يعرف الإجابة، كل المصريين، على اختلافهم، وكل المتابعين للشأن المصري، أيا كانت مواقعهم الأيديولوجية أو مصالحهم السياسية، لكنّ أحداً لا يخبرك بالإجابة مثل الدولة المصرية نفسها... إجراءاتها... معتقلاتها... محرّماتها... مجرّماتها... مجنزراتها... شاشاتها التي تصرُخ يوميا باتهام كل ما عداها بالخيانة والعمالة والشر... متاريسها في الشوارع والميادين... كمائنها في كل لفتة من حياة المواطن.. تفتيشها جيوبه وملابسه وتليفوناته ونواياه.. كتائبها الإلكترونية .. أجهزة تنصتها الحديثة التي أنفقت في شرائها مئات الملايين.. إغلاقها، رعبا، منافذ المجال العام.. كل المنافذ.. تحويلها ميادين التظاهر إلى ثكنات عسكرية، وفكرتُه، مجرّد فكرته، إلى محاولة انتحار، ثم اضطرارها الدائم، مع ذلك كله، إلى الكذب، ورمي مسؤولية الفشل الذريع على كل شيءٍ ما عداها، الإخوان الذين انتهوا، لكنهم حاضرون في سردية هزيمة الدولة، الحرب الروسية الأوكرانية، فيروس كورونا، الأزمة العالمية، حرب إبادة غزّة، وحصارها التي تشارك فيه الدولة المصرية من ناحية، وتستخدمه في تبرير هزائمها من ناحية أخرى.. لقد هُزمت دولة 3 يوليو (2013).. هُزمت بعد انتصارها على خصومها، هُزمت أمام نفسها من دون خصم، والأهم أنها هُزمت أمام "مواطن 28 يناير"، هزيمة ساحقة، مُذلّة، لم تر مثلها من قبل، حتى يوم 28 يناير/ كانون الثاني 2011.