مهزلة "الأمن مقابل السلام"
لا تعني تهديدات السلطة الفلسطينية بإنهاء التنسيق الأمني مع إسرائيل، على أهميتها، شيئا إذا لم تكن ضمن استراتيجية أوسع، تشترط بناء الوحدة الوطنية الفلسطينية، والإعداد لمواجهة العقاب الإسرائيلي والأميركي. لكن، لا يمكن التحرر من قيود هذا التنسيق الأمني من دون التحرر الفكري من وهم "عملية السلام"، إذ إنه "تنسيق" وضع، أصلا، من أجل إخضاع الشعب الفلسطيني، بهدف قبول استمرار السيطرة الإسرائيلية وإنهاء المقاومة، فيما تمضي إسرائيل في سياستها التوسعية من ابتلاع الأرض وتشريد للشعب الفلسطيني. فالهدف ليس التنسيق، بل ضمان تنفيذ الشروط الأمنية الإسرائيلية، والتي تعني، عملياً، أن تتولى السلطة الفلسطينية منع العمليات ضد إسرائيل وعدم اقتراب المحتجين من الحواجز الإسرائيلية العسكرية الإسرائيلية، أي وضع "أمن إسرائيل" فوق أي اعتبار إنساني، أو حقوقي وسياسي، للشعب الفلسطيني.
بدأ الابتزاز منذ اتفاقية أوسلو، إذ لم تتضمن بنوداً تحمي الشعب الفلسطيني وأرضه من بطش الاحتلال الإسرائيلي، ولم تتضمن أي إشارة إلى القانون الدولي أو اتفاقية جنيف الرابعة التي تحرم مصادرة الأراضي وتهجير السكان ونقل مستوطنين للعيش في الأراضي المحتلة، إضافة إلى رفض إسرائيل الالتزام بأي مواثيق تمنع التعذيب والقتل والتنكيل.
وكان الغرض، منذ البداية، إحلال الشروط الإسرائيلية، المفروضة بالتفوق العسكري والدعم الأميركي، مكان القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، فتصبح الاتفاقيات، خصوصاً في جانبها الأمني، هي المرجعية الرئيسية للتسويات المرحلية والنهائية سواء، لأن إسرائيل لا تعترف بالحقوق التاريخية، ولا حتى السياسية والقانونية للشعب الفلسطيني أصلا.
وترى إسرائيل في الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني تهديداً لشرعيتها، وإن لم يكن وجودها، لأن الفكر الصهيوني لم يعترف، من الأصل، بوجود شعب عربي فلسطيني على أرضٍ اعتبرها وطناً لليهود القادمين من كل العالم، وما الشعب الفلسطيني أكثر من عائق لتحقيق الدولة وتوسعها.
قامت المطالب الإسرائيلية على أساس "ضرورة احتواء الفلسطينيين"، من خلال تحول منظمة التحرير إلى سلطة منزوعة السلطة والسيادة، تأخذ عن إسرائيل عبء الاحتكاك المباشر بالفلسطينيين. ولكن، من دون عوائق أمام غزو الجيش الإسرائيلي ومداهماته وقصف طائراته، فالشعب الفلسطيني هدف مباح، من دون حماية قانونية أو عملية.
تم فرض "التنسيق الأمني" على الفلسطينيين، في شروط أميركية - إسرائيلية، ربطت أي انسحاب للجيش الإسرائيلي بشرط التزام الفلسطينيين بالضمانات الأمنية، ووضع المبعوث الأميركي دينيس روس مذكرة لتأكيد هذا الربط "بمكافحة الإرهاب، كجزء من "اتفاق الخليل" في 1997.
مفهوم " الأمن مقابل السلام"، أي أن يحافظ الفلسطينيون على أمن إسرائيل حتى يستحق الشعب الفلسطيني ثقة الاحتلال، أصبح، أيضاً، شرطا لتطبيق "خارط الطريق" عام 2002، فلا انسحابات إسرائيلية ولا دولة فلسطينية، من دون الالتزام الفلسطيني بالمطالب الأمنية الإسرائيلية.
لكن، ما جعل التنسيق الأمني يبدو حاجة فلسطينية أن إسرائيل تتحكم في حركة الفلسطينيين والبضائع، سواء التنقل الداخلي أو السفر إلى الخارج، ما أعطى لإسرائيل الحق في منع حركة الفلسطينيين، بما فيهم الرئيس الفلسطيني، في أي وقت تريد، بحجة خرق الضمانات الأمنية.
هناك قلق فلسطيني يبقى من أن إلغاء التنسيق الأمني يعني إحداث عقاب إسرائيلي جماعي، قد يصل إلى حد الاجتياح العسكري والاغتيالات، لكن استمراره ليس أكثر من تشريع للاحتلال الفلسطيني، وتحول قطاع من الشعب الفلسطيني، من سلطة وأجهزة أمن، إلى أدوات لتمكين الاحتلال.
لا بد من وضع حد لمهزلة "الأمن مقابل السلام"، فتحت هذا الشعار، يستمر الاحتلال ويبتعد حلم الفلسطينيين بالحرية والاستقلال.