من يسيطر على التلفزيون يسيطر على البلاد
كنت لا أزال طفلا عندما قرّر والدي، رحمه الله، أن يدخل إلى البيت ذلك الصندوق العجيب المعروف باسم التلفزيون. هذا الجهاز الذي اعتمد عليه الرئيس الحبيب بورقيبة لترسيخ فكرة الأمة التونسية، وتثبيت زعامته المطلقة وتحقيق الولاء لعموم التونسيين له وللدولة الوطنية. كانت علاقتُه بالجمهور تعتمد على الاتصال المباشر، ثم على الإذاعة، ومع حلول التلفزيون استحوذ عليه،
و صفه بـ"تلفزتي"، ولم يسمح لأيٍّ كان أن يشاركه في هذا الجهاز إلا لمن يسعى إلى تأييده وتثبيت أقواله وسياساته. وعمل على أن يصل البث إلى أقصى مناطق الشمال والجنوب، حتى يبلغ كلماته إلى أغلبية السكان من خلال برنامج يومي تحت عنوان "من توجيهات الرئيس". كان التلفزيون أداة حُكم فعّالة، خصوصا في الستينات. إنه سحر الصورة وقدرته على توظيفها تثبيتا للزعامة المطلقة.
عند قدوم الرئيس بن علي، لم تختلف العلاقة بالإعلام عموما وبالتلفزة الوطنية خصوصا، بعد أن دجّن المعارضة، ووضعها ضمن مربّع صغير جدا. وحتى يؤكّد وصايته عليها، أطلق عليها قناة 7، نسبة إلى تاريخ استيلائه على السلطة في السابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 1987. واختير اللون البنفسجي لها، وهو المفضّل لقائد الانقلاب. وبقي التلفزيون مُحتكرا تماما من الموالين للنظام، لا يقترب منه أحد إلى تاريخ قيام الثورة. كان التلفزيون أشبه بالسلاح الاستراتيجي الذي لا يجوز الاقتراب منه، مهما كانت الأسباب والدوافع.
بعد 14 جانفي (يناير/ كانون الثاني 2011) تحرّرت نسبيا مؤسّسة الإذاعة والتلفزيون من هيمنة الصوت الواحد، واعتبرت مؤسّسة عمومية، لا ملك شخص أو حزب. ودارت حولها في البداية معركة سياسية هامة عندما حكمت الترويكا بقيادة حركة النهضة التي حاولت أن تنتزع المؤسّسة ممن وصفتهم ببقايا العهد السابق، وفكّرت حتى في عرض التلفزيون التونسي للبيع للقطاع الخاص. لكن الحركة فشلت في ذلك، واضطرّت الى التراجع والتكيف تكتيكيّا مع الوضع الجديد.
يريد الرئيس قيس سعيّد اليوم فرض منطق الدولة على استقلالية المؤسّسة وحرية المبادرة، فرغم أنه اختار بنفسه مديرة التلفزيون التي حاولت أن تكون عند حسن ظنّ رئاسة الجمهورية، إلا أنها فوجئت بتقريع مرّ من الرئيس لها، مؤكّدا أنه غير راض على الخط التحريري، وعلى ترتيب عناوين الأخبار ومحتواها والضيوف والبرامج، اعتمادا على أحد البرامج التي تضمّنت مدحا لأحد المدراء السابقين للتلفزيون في عهد الرئيس بن علي، واصفا ذلك بالردّة والثورة المضادّة.
اعتبرت نقابة الصحافيين ما قام به رئيس الدولة "تدخّلا سافرا في الإعلام"، ورفضت أن يكون الإعلام "بوق دعاية للسلطة الحاكمة مهما كان لونها". ورأت فيه "صنصرة وضربا لمبدأ التعدّد والتنوّع والموضوعية"، مع الإشارة في الخصوص إلى منع المجتمع المدني والقوى السياسية من الظهور في التلفزة. وأكّدت النقابة على أن التلفزة دأبت منذ 25 يوليو/ تموز 2021 على "تبييض السلطة وتغييب الرأي المخالف وقدّمت خدمات جليلة للسلطة لاسترضائها دون فائدة".
يسير قطار الإعلام في الاتجاه المعاكس. هذا ما يلاحظه كل مراقب موضوعي، ولولا بعض أصوات وأقلام بقيت تشكل نشازا لصحّ القول إن حليمة عادت إلى عاداتها القديمة. لقد عادت الرقابة الذاتية بقوّة، وهي إحساس رهيب يسكن في أعماق الصحافي يتسرّب إلى داخله، ويمنعه من التعبير بحرّية وجرأة. حالة طالما عانى منها الصحافيون من قبل، رغم استمرار بعضِهم في تحدّي مناخ الخوف والإحباط والكآبة.
يدرك الذين يشاهدون التلفزيون اليوم الفوارق الكبرى بين ما كان عليه المشهد قبل سنتين فقط. لا يعني أن تونس كانت جنّة إعلامية، لكن المؤكّد أن مساحة الحرية تقلّصت بشكل كبير، وأن صحافيين وكتاباً كثيرين، في الداخل والخارج، أصبحوا يتجنّبون الصدام مع السلطة، ويخشون أن يشملهم إجراء استثنائي قد يحرمهم من حرّية التنقل. وهناك من فضل البقاء بعيدا عن تونس، من باب لا تقترب من النار حتى لا تحترق.