من يحتاج التوبة .. الفنانون أم الدعاة؟
مهرجانات صاخبة تشهدها "السوشيال ميديا" بين حين وآخر .. حمو بيكا ورفاقه في مواجهة هاني شاكر حينا، و"دعاة التريند" ووعاظ "الأندر غراوند الإسلامي" في مواجهة الفنون والآداب، والدين نفسه، أحيانا أخرى... قرأت، وشاهدت، شابا أردنيا يدعى أدهم النابلسي، مطرب، وله جمهور ومتابعون، ويقدّم أغاني لطيفة ومسلية، لا شيء فيها. فجأة قرر المسكين أن يتوب، عن ماذا؟ عن الغناء، لماذا؟ لكي يتفق مع طريق الله (!). السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، قبل متابعة الخبر وتعليقاته، هل ما زال أحد يصدّق في تحريم الغناء بعد كل ما صدر من كتابات تصحيحية لهذه الخرافة؟ لا تأتيك الإجابة، إنما تنفجر في وجهك مثل قنبلةٍ جرى زرعها في ميدان عام، "بوستات" في هيئة مهرجانات وأفراح وزغاريد برجوع الشاب إلى دينه، وتهان وتبريكات (بعضها من فنانين) بتوبته وعودته وأوْبته، وتمنيات باللحاق به. لم أشعر، ولو لحظة، بأي نفورٍ من الشاب أو من باركوا له، على العكس، شعرتُ بالاحترام والتقدير، فهذا شابٌّ يترك حياة واسعة، جماهير بالملايين، وأرباحا بالملايين، من أجل ما يعتقد أنه يُرضي الله. موقف مشرّف، من حيث المبدأ، شجاع، صعب، لا يقوى عليه كل واحد، بل لا يقوى عليه أي واحد، فيما أزعم، ممن دفعوا هذا الشاب إلى هذا الموقف، الصادق، وغير الصحيح.
توارثْنا أفكارا مختلفة عن الدين، تراثا كبيرا، ضخما، ثريا، مشرّفا، في المجمل، لكنه بشري، يستحق القراءة والنقد قدر ما يستحق التقدير. والحقيقة أن نقد التراث بدأ مع التراث نفسه، في تشكّله، والأفكار الخاطئة التي صدرت عن أصحابها لأسبابٍ تاريخيةٍ، تجاوزها الزمن، أو توافقات اجتماعية، أو حسابات وتوازنات سياسية، أغلبها وجد من يقوّمه ويشتبك معه ويكشف خطأه أو تاريخيته أو تسييسه، في زمانه قبل زماننا. ومن هذه الأفكار التي وجدت رواجا كبيرا، تحريم الموسيقى والغناء، وهو تحريمٌ لا يقوم عليه دليل واحد صحيحٌ أو متماسك، وفق أي معيارٍ علمي. كتب في ذلك قدماء ومعاصرون، فنّدوا الأدلة، ردّوا على أصحابها، كشفوا عن سياقات التحريم التاريخية. أتوا بأمثلةٍ ونماذج لصحابة وتابعين وتابعيهم وعلماء وفقهاء، من المذاهب كافة، أباحوا الموسيقى والغناء، وبعضُهم تولّه بهما، وفيهم من اشتغل بهما أيضا. والأمثلة أكبر من الحصر، ومن مساحة المقال بطبيعة الحال، تجدها مجمعة، في كتبٍ معاصرةٍ مثل "الموسيقى والغناء في ميزان الإسلام" لعبد الله الجديع، و"أحكام الغناء والمعازف وأنواع الترفيه الهادف" لسالم بن علي الثقفي، و"فقه الغناء والموسيقى" ليوسف القرضاوي، و"الغناء والموسيقى حلال أم حرام" لمحمد عمارة، وعشرات غيرهم. اعتمدوا، جميعا، على آراء ونقولات تراثية. فكّكوا آراء خصومهم، ولم يتركوا للرأي القائل بالحرمة ثغرةً للمرور، أو إمكانية للوجود والاستمرار. ناهيك عن كتاباتٍ أخرى، لا تقلّ أهمية عن سابقتها، وهي كتب تاريخ الغناء والموسيقى عند العرب والمسلمين، والتي تكشف عن مسار فني أصيل وضارب بجذوره في عمق التاريخ، لم يتأثر بآراء التحريم، "النشاز"، على شيوعها. وهنا أشير إلى كتابات تراثية مثل الأغاني (الأصفهاني)، وطبقات المغنين، ورسالة القيان (الجاحظ)، وكتبٍ أفردت فصولا خاصة بالغناء، مثل مسالك الأبصار (العمري) وعيون الأخبار (ابن قتيبة)، ونهاية الأرب (النويري)، وعشرات غيرهم. كما أشير إلى معاصرين، مثل تاريخ الموسيقى العربية (هنري فارمر)، والطرب عند العرب (عبد الكريم العلاف)، والموسيقى العربية وأعلامها من الجاهلية إلى الأندلس (محمود الحفني) وغيرهم.
أخيرا: لا يتحمّل الخطاب الديني المتطرّف وحده مسؤولية تخريب عقول شباب وفنانين وتزوير علاقتهم بدينهم وتراثهم. يتحمّل الفنان بدوره مسؤولية إهماله القراءة في تخصّصه وحوله، كما تتحمّل البيئة الفنية، في بلادنا، مبدعين ومنتجين ونقادا، مسؤولية النفور من وجود فنانين محافظين، ومقاومة ألوان فنية محافظة، في مجتمعاتٍ أغلبها محافظ، ما يجعل هذا النوع من الفنانين فريسة سهلة لخطابات النطاعة الدينية، أو الاستجابة للموهبة الربّانية الملحّة وفق معالجاتٍ فنيةٍ لا يرتضيها، فيعيش ممزّقا بين موهبته ومعتقده.