من مقدّمات الثورة السورية وبواعثها ومآلاتها

05 مارس 2024
+ الخط -

نحن على أبواب الذكرى الـ 13 لانطلاقة الثورة السورية التي كانت بعد أن تيقّن السوريون من انسداد الآفاق أمام أي حلّ إصلاحي كان من شأنه إنقاذ سورية مجتمعاً وأرضاً ومستقبلاً. وكان الانسداد بفعل إصرار وارث الجمهورية بشّار الأسد على الاستمرار في سياسة القمع ذاتها، وسلوكيات الفساد والإفساد عينها؛ وهي السياسات والسلوكيات التي رسّختها سلطة الأسد الأب الذي كان يعتبر سورية مزرعة خاصة سيطر عليها بقوة السلاح، وتمكّن من الاستمرار في السيطرة عليها بقوة الأجهزة المخابراتية. أما الرتوش التزيينية التي استخدمها مثل تشكيل "الجبهة الوطنية التقدّمية"، وتنظيم الانتخابات الاستفتائية المبرمجة، وحملات الإصلاح المزعوم؛ هذا إلى جانب المزاعم القوموية الكبرى، ورفع لواء "الصمود والتصدّي"، واعتماد مصطلحات "المقاومة والممانعة"؛ فذلك كله يدخل ضمن نطاق تسويق سلطة الأسد وتأبيدها عبر توزيع التماثيل في طول البلاد وعرضها، وتعميم الشعارات الاستفزازية مثل: "الأسد أو نحرق البلد".
ولاستكمال السيطرة الشمولية على أركان الدولة والمجتمع، أغلق حافظ الأسد الأبواب أمام تبلور أي قوة قادرة على طرح نفسها بديلاً مقنعاً لإدارة البلاد بحكمة ونزاهة، لتنتشلها من المخاطر التي كانت تهدّدها. ومن بين ما أقدم عليه في هذا المجال تفتيت المجتمع الأهلي، وربط زعاماته بأجهزته الأمنية. ولم يقتصر هذا التفتيت على البنية العشائرية والمؤسّسات الدينية الأهلية، بل شمل حتى الطرق الصوفية. وتعرّضت الأحزاب السياسية، سواء التي ضمّها إلى الجبهة الوطنية التقدّمية؛ أم تلك التي أبقاها خارجها هي الأخرى للتفتيت. أما الأحزاب التي تمرّدت على مشروعه التدجيني فقد كان نصيبها الملاحقة والاعتقال والقمع والتنكيل.
من جهة أخرى، فرض حافظ الأسد "البعثنة"، إذا صحّ التعبير، على الأطفال واليافعين والشباب السوريين، من خلال منظمات الطلائع وشبيبة الثورة وحزب البعث، وعبر إجراءات تعسفية ربطت بين فرصة الحصول على العمل في الوظائف الحكومية المدنية والعسكرية، والانتساب إلى حزب البعث أو الحصول على موافقات الأجهزة الأمنية التي لم تكن من دون مقابل.

تمكّن حافظ الأسد، بفعل الأوراق الإقليمية التي هيمن عليها، من استخدام التوازنات الإقليمية لصالح نظامه، واستطاع تسويق نفسه لدى دوائر القرار الدولية بوصفه الضامن لاستقرار المنطقة

وحتى تكتمل عملية قمع الاحتجاجات، وكتم الأفواه، تحكّم حافظ الأسد في المنظمات والاتحادات "الشعبية" المهنية والطلابية التي اتخذها واجهة "مدنية عصرية" لحكمه القمعي المتوحش. 
إلى جانب ذلك، تمكّن حافظ الأسد، بفعل الأوراق الإقليمية التي هيمن عليها، سيما بعد خروج مصر من دائرة التأثير العربي، ونتيجة ما سبّبته مغامرات صدّام حسين للعراق، من استخدام التوازنات الإقليمية لصالح نظامه، واستطاع، في الوقت ذاته، تسويق نفسه لدى دوائر القرار الدولية بوصفه الضامن لاستقرار المنطقة، والقادر على منع حدوث الاندفاعات الشعبية التي كانت من شأنها إعادة خلط الأوراق في غير صالح حسابات الضبط والالتزام بالمسارات المسموحة بها؛ ويُشار هنا على سبيل المثال إلى ما فعله في لبنان، سواء مع الحركة الوطنية اللبنانية أم مع منظمة التحرير الفلسطينية، وحتى مع القوى المسيحية.
ومع رحيل حافظ الأسد نتيجة الوفاة، واستلام بشّار الأسد الحكم ليكون وريث الجمهورية، وتم ذلك بموجب ترتيبات كان الأسد الأب قد وضعها بالتعاون مع القادة المفصليين في الحكومة والجيش والأجهزة الأمنية، لتسهيل عملية التوريث بهرطقة دستورية خاصة بالعمر القانوني للرئيس، وهي الهرطقة التي تكفّل بتمريرها خلال لحظات رئيس "مجلس الشعب" في ذلك الحين. وهكذا دخلت سورية التاريخ من بوابة الجمهوريات الوراثية، وكان ترتيبها هو الثاني بعد كوريا الشمالية.

بعد أحداث كثيرة، وصل الشباب السوري إلى قناعة تامة فحواها أن سلطة آل الأسد ليست في وارد إجراء الإصلاحات التي وعَدت بها

ومع استلام بشار الأسد للحكم، بشّر في خطاب القسم الشهير بالوعود المعسولة التي شملت الحريات، وتوفير فرص العمل للشباب، وفتح الآفاق أمام التطوير في مختلف الميادين. ورغبة منها في إعطاء فرصة لوعود الإصلاح، وعلى أمل تجنيب سورية المخاطر التي كانت تهدّد بها السلطة الأسدية بصورة سافرة قميئة، تحت شعار "الأسد أو نحرق البلد" تظاهرت النخب والقوى السياسية السورية بتصديق وعود بشّار الأسد.
وبدأت الحوارات الوطنية في مختلف المناطق السورية، سيما في دمشق وحلب. وكان صدور بيان الـ 99؛ ومن ثم البيان الألفي. وكان التفاؤل في ذروته لدى غالبية النخب رغم تشاؤم بعضها. وانتشرت المنتديات، واعتقد كثيرون أن الربيع السوري قد أزهر في دمشق. ولكن سرعان ما تبين أن هذا الانطباع لم يكن يعبّر عن الواقع الفعلي، وذلك بعد تدخّل الحرس القديم مجدداً، لتبدأ عملية إغلاق المنتديات، واعتقال الرموز الوطنية السورية. 
وكان تفجير العراق على صعيد المجتمع والدولة بعد سقوط نظام صدّام حسين، وكان ذلك بالتعاون والتنسيق بين سلطة بشّار والنظام الإيراني. وكان القمع الوحشي للكرد في القامشلي في مارس/ آذار 2004. وبعد كل هذه الأحداث وغيرها، وصل الشباب السوري إلى قناعة تامة فحواها أن سلطة آل الأسد ليست في وارد إجراء الإصلاحات التي وعَدت بها، وإنما كانت كل وعودها مجرّد وسيلة للتعمية والتضليل، وكسب الوقت للتمكن من السيطرة. وارتفعت وتيرة الاستبداد، وتصاعدت حملات ملاحقة واعتقال الناشطين الشباب. وتراجعت القطاعات الإنتاجية نتيجة الفساد، وارتفعت نسبة البطالة إلى مستوياتٍ مُفزعة، وبلغت أسعار المواد الحيوية حدوداً قياسية مقارنة مع نسب الدخل. واتسعت الشروخ المجتمعية بين أصحاب الملايين الملوثة، وأولئك الذين كانوا يعملون ليل نهار لتأمين لقمة العيش لهم ولأسرهم. وفقدت وعود الإصلاح بريقها، وتأكد الناس، لا سيما الشباب بأن كل وعود السطلة هي مجرّد اختلاقات وأباطيل.

لم تسرِ الأمور كما كان السوريون الثائرون يحلمون ويريدون، وهنا علينا أن نعترف بالأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها، وما زالت ترتكبها، المعارضة السورية

وكانت سلسلة الاغتيالات الإرهابية في لبنان التي استهدفت سياسيين ومفكرين وصحافيين مناهضين للهيمنة السورية على لبنان، ولم يعُد سرّاً أن تلك الاغتيالات كانت بالتفاهم مع النظام الإيراني وبالتنسيق مع حزب الله؛ وكانت تستهدف إرهاب اللبنانيين والسوريين على السواء. وأصبحت البلاد بأسرها أشبه ببرميل بارود مضغوط قابل للانفجار بمجرّد توفر أي صاعق مهما كان ضعيفا.
وبدأت الاحتجاجات والانتفاضات في عدة دول عربية، وسرعان ما تحوّلت تلك الاحتجاجات والانتفاضات إلى ثورات تطالب بإسقاط الأنظمة، كما حدث في تونس ومصر، ومن ثم في ليبيا واليمن، وتجاوب الشباب السوري مع شباب تلك البلدان، ورفع شعاراتٍ تطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، كما رفع شعارات تجسّد الروح الوطنية الجامعة بين مختلف المكونات المجتمعية السورية.
ورغم كل الجهود التي بذلت لتوحيد كلمة السوريين المناهضين للسلطة المستبدّة الفاسدة والمفسدة، تبيّن للجميع، في نهاية المطاف، أن النظام الأمني الذي ثبّته حافظ الأسد لم ينحج فقط في ضبط الأمور لتكون تحت سيطرته، بل قطع الطريق أمام إمكانية نشوء البديل الأفضل المطلوب، بعد أن تمكّن من تدجين الأحزاب وتفتيها، وقمع المعارضين لمشروعه الاحتوائي.
وكان الاعتقاد أن المرحلة الجديدة ستدفع كل القوى السورية المعارضة إلى التعاضد والتضامن والعمل المشترك في سبيل تحقيق الهدف الاستراتيجي، المتمثل في ضرورة التخلص أولاً من سلطة الاستبداد والفساد، لتصبح الطريق ممهّدة أمام ترتيب الأمور على صعيدي المجتمع والدولة لضمان مستقبل أفضل للشباب، وتأمين مقوّمات العيش الحر الكريم للأجيال المقبلة. غير أن الأمور لم تسر في هذا الاتجاه بكل أسف كما كان السوريون الثائرون يحلمون ويريدون، وهنا علينا أن نعترف بالأخطاء الكبيرة التي ارتكبتها، وما زالت ترتكبها، المعارضة السورية.

تتشخّص مسؤولية المجتمع الدولي في تعامله مع الموضوع السوري بعقلية إدارة الأزمة عوضاً عن العمل الجاد الفاعل من أجل الوصول إلى حلٍّ واقعي موضوعي

وقد أسهمت التدخلات الإقليمية والدولية من خارج إطار المؤسّسات التي أفرزتها الثورة السورية في تعقيد الأوضاع، الأمر الذي فتح المجال أمام القوى الإسلاموية المتشدّدة التي تمكّنت من الهيمنة على العمل الميداني. ولم تكن السلطة الأسدية بعيدة عن الإسهام في هذا العمل بصورة مباشرة وغير مباشرة بطرق وأساليب متعددة. وكان للدخول الإيراني العلني القوي إلى الساحة السورية لحماية السلطة الأسدية منذ البدايات، إلى جانب الأذرع الإيرانية من المليشيات المحلية في دول المنطقة، خصوصاً حزب الله في لبنان، والفصائل العراقية المذهبية، الدور الأخطر في قتل السوريين وتهجيرهم وتدمير بلدهم. وهكذا حتى وصلنا إلى ما نحن عليه راهناً.
أما مسؤولية المجتمع الدولي الذي أعلن بداية عن مساندته إرادة الشعب السوري عبر مجموعة "أصدقاء الشعب السوري"، فهي تتشخّص في تعامله مع الموضوع السوري بعقلية إدارة الأزمة عوضاً عن العمل الجاد الفاعل من أجل الوصول إلى حلٍّ واقعي موضوعي يضع حدّا لمعاناة السوريين ويحترم تضحياتهم وتطلعاتهم. 
وقد جاءت الحرب الإسرائيلية على المدنيين في غزّة انتقاما من هجوم كتائب حركتي حماس والجهاد الإسلامي على مستوطنات غلاف غزّة وبلداتها في 7 أكتوبر، لتؤكّد مجدّداً عدم وجود رغبة دولية واضحة حازمة في التوصل إلى حلّ واقعي ممكن، يضع حدّاً لمآسي شعوب المنطقة، وهي المآسي التي تتجلّى مظاهرها في عمليات تدمير الاجتماع والعمران والأحلام المشروعة التي ترنو نحو مستقبل أفضل للأبناء والأحفاد.

8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا