من سيرة الموت السوري
لا يكاد يمرّ يومٌ من دون أن أسمع خبرَ موتِ صديقٍ أو شخصٍ أعرفه، أو أعرفُ أحداً من معارفه أو أسرته، وكأنّ الموت لا يريد أن يتوقّف، ولو لبرهة قصيرة، ليستريح ويريح قلوب السوريين من هذه المكابدات الطويلة، واللافتُ أنّ نسبةً كبيرةً من الراحلين هم من الشباب ومتوسّطي السنّ، أي من لم يصلوا إلى السبعين من أعمارهم، وهي سنٌّ لم يعد أصحابها يُعتبَرون مسنين كما كان سابقاً، إذ تغيّرت مفاهيم المراحل العمرية في عصرنا هذا، بسبب ارتفاع متوسّط الأعمار عالمياً، نتيجة تغيّر الوعي الصحي في المستوييْن الفردي والعام. ورغم ذلك، فإنّ أكثر من تخسرهم سورية حالياً هم من هذه الفئات العمرية المُمتدّة المتوسّطة، وهو ما ينطبق على سوريي الداخل والخارج معاً، لا سيما الذكور، فنسبة الذكور الذين يغادرون عالمنا تتفوّق على نسبة الإناث، وهذا بدأ مع الثورة السورية، والحرب التي تلتها، شأن كلّ الحروب في العالم، حيث تكون النسبة الأكبر من ضحاياها من الرجال.
ثمّة سببان رئيسيان للموت السوري، إذا استثنينا من يموت بسبب القصف أو الحرب، أو التعذيب في المعتقلات أو في جرائم القتل، هما: أمراض القلب والأمراض العضال كالسرطان، والمرضان رغم أنّهما عضويان لكن للعامل النفسي دوراً كبيراً في تشكّلهما لدى المصابين بهما. والعامل النفسي ليس التوتّر فقط، بل هو الحزن أيضاً، واليأس وفقدان الأمل، والخوف من المُقبل، وعدم القدرة على التأقلم مع الظرف الراهن، سواء المادي أو الاجتماعي، والعجز أمام التحدّيات الكبيرة في الحياة اليومية، العامّة والخاصّة، والعجز عن تلبية الاحتياجات الشخصية والعائلية، والشعور المرير بالفاقة، الذي يخلّف شعوراً مريراً بالذلّ.
والحال، أنّ لا فرقَ في هذا بين سوريي الداخل والخارج، ففي الداخل، تشتدّ الأزمات المعيشية، وتزداد يوماً بعد يوم، حتّى ليقال إنّ سورية قد وصل فيها خطّ الفقر إلى مستويات بالغة الخطورة، وتنذر بكارثةٍ مجتمعيةٍ كبيرة، يتحدّث بعضهم عن أنّها، أي الكارثة، قد حلّت على السوريين منذ وقت ليس بقريب، وتظهر في التسوّل ومظاهر الجوع وعمالة الأطفال والتسرب من التعليم، وتجارة الرقيق والدعارة، والفارق الطبقي المهول بين أثرياء الحرب وباقي أفراد الشعب، ممن دفعوا الأثمان الباهظة في حرب النظام السافلة ضدّهم، وتظهر أيضاً في إدمان كلّ أنواع المُخدّرات لدى غالبية فئات الشعب، وفي فسادٍ يأكل الأخضر واليابس، تضاف إلى هذا كلّه القبضة الأمنية المروّعة للنظام، والاعتقالات المتواصلة لأيّ معترض على أي شيء؛ ما يجعل من مواجهة هذا كلّه، واحتماله، أمراً عسيراً وشاقّاً يسبب اضطرابات نفسية شديدة تظهر على شكل أمراض فيزيولوجية خطيرة، كأمراض القلب وأزماته المفاجئة، والسرطانات بكلّ أنواعها.
لا يختلف وضع سوريي الخارج كثيراً، ففي المخيمات، في الدول المجاورة، يعاني السوريون معاناة من هم في الداخل نفسها تماماً، تضاف إليها المعاناة من العُنصرية، ويستبدل بالاعتقال الترحيل أو الترهيب بالترحيل القسري إلى مناطق النظام أو إدلب، حيث قد يكون الاعتقال أو الموت في استقبال المُرحّلين قسراً إلى "الوطن" العزيز والغالي. أمّا السوريون في بلدان العالم الأخرى (العالم المُتقدّم)، فمعظمهم يعيشون على مساعدات مراكز العمل الاجتماعية أو يعملون في أعمال لا تتناسب مع خبراتهم أو تحصيلهم العلمي، ويعجزون عن الاندماج في مجتمعاتٍ ذاتِ ثقافةٍ مُختلفة، ويعجزون عن تعلّم لغة المجتمع الجديد، ورغم أنّهم ينعمون بأمان كامل لا يملكه أبداً السوريون الذين يعيشون في بلدان العالم العربي، إلا أنّهم يعانون من اكتئابات طويلة بسبب شعورهم بالعجز عن الاندماج في المجتمع الجديد، وعيش معظمهم في وحدة شديدةٍ، وعزلةٍ سبّبتها، أولاً، سياسة توزيع اللاجئين في المدن والقرى الأوروبية، وثانياً، حاجز اللغة، بوصفه أوّل صدمات المنفى واللجوء، وثالثاً، الظروف الشخصية وتجارب اللجوء المريعة، التي مرّ بها كُثر من اللاجئين، وتركت شروخاً كبيرةً في نفوسهم، تحوّلت عللاً وأمراضاً قاتلة.
تصيبنا أخبار الموت اليومي بالرعب، إذ تجعلنا جميعاً رهن الخوف من مصير مشابه، لأنّ معظمنا يعيش في ظلّ الظروف نفسها، والرعب ليس من الموت في حدّ ذاته، بل مما قبله؛ من المرض والألم، خصوصاً أنّ أكثرنا يعيش وحيداً لا يجد حوله من يعينه في حال احتياجه لذلك، فهل أصبح هذا، أيضاً، قدر السوري في هذا الزمن اللئيم؟