من خان شيخون إلى غزّة... مسارُ القتلِ لا ينقطع
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.
مرّت يوم الخميس، 4 إبريل/ نيسان، الذكرى السابعة للمجزرةِ التي ارتكبتها قواتُ نظامِ بشّار الأسد في خان شيخون عام 2017، وراح ضحيتها أزيد من مائةِ شخصٍ أغلبهم من الأطفال، وما يقرب من أربعمائةِ مُصابٍ لا يزال بعضهم يعاني جرّاء إصابته تلك. وقد سبقَ لمنظمّاتٍ دوليةٍ عديدة، في مقدّمتها منظمة حظر الأسلحة الكيماوية (OPCW)، أن أكّدت مسؤولية سلاح الجو السوري عن المجزرة، بل حدّدت أسماء الضبّاط الذين شاركوا فيها. وهي تُضاف إلى قائمةٍ كبيرةٍ تضمّ ما لا يُعدّ من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية الموثّقة في سورية خلال السنوات الثلاث عشرة الأخيرة، حيث جرى توثيق استخدام الهجمات الكيماوية المدمّرة والمحظورة دوليًا لما لا يقل عن 336 مرّة ضد الشعب السوري منذ عام 2011 فقط، وما زال الحبل متروكًا على غاربه للمجرمين.
وبالاستناد إلى قواعدِ القانونِ الدولي ومجموعةِ القرائن والأدلّة المتوفرة، يمكن بشكلٍ أو بآخر إثبات سلسلة الأوامر وتسلسل القيادة حتى يصل التحقيق الجنائي الدولي، إن أُجري مستقبلًا، إلى رأسِ نظامِ الحكم في سورية بشّار الأسد. الأمر ذاته يمكن الوصول إليه ببساطة في ما يخصّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وكبار قادة دولته السياسيين والعسكريين، هذا طبعًا إذا تجاوزنا نظريًا مسألة الفيتو الأميركي في مجلس الأمن من جهة، ومسألة الانحياز وعدم الحياد في القضاء الجنائي الدولي من جهة ثانية. ذلك الانحيازُ وتلك اللااستقلالية ثبتت من خلال محاكمة قَتَلَةِ رفيق الحريري ورفاقه باعترافات وزيرة الدفاع الفرنسية السابقة ميشال أليو ماري ذاتها، حيث أكّدت في مقابلة تلفزيونية تعرّض المحكمة لضغوطٍ شديدة أدّت إلى استبعاد أسماء المتوّرطين السوريين من القرارِ النهائي للمحكمة، ما مكّن نظام الأسد من الإفلات من إدانة دولية مهمّة في مرحلة متقدّمة من مراحل إجرامه، بوصفه نظام حكمٍ يقمع شعبًا يحكمه بطريقةٍ غير مسبوقة.
لم تَعدْ إسرائيل حجر الزاوية في تأمين المصالح الأميركية والغربية في المنطقة عمومًا، بل ظهرت بحجمها الطبيعي
بعد "طوفان الأقصى" وسقوط محدّدات السياسة الدفاعية الإسرائيلية الأساسية، أي الإنذار المبكّر المستند إلى التفوّق التقني، والردع المرعب، وأخيرًا الانتصار الساحق والسريع في أيّ حرب، تغيّرت مقارباتُ جميع الأطراف الفاعلة في المشهد الدولي في ما يخصّ المنطقة برمتها. ظهرت معادلاتٌ جديدة في موازين القوى، وتبيّن دور المليشيات الكبير في زعزعةِ الاستقرار الذي ظنّ الجميع أنّه نهائي وفق تركيبات الدول والأنظمة المتحالفة. وبغضّ النظر عن الخسائر الهائلة في الأرواح البشرية للمدنيين العزّل من شعوب المنطقة، الذين هم بغالبيتهم الساحقة من العرب المسلمين، والتي لا يأبه لها أيٌ من أطراف الصراع، وبصرفِ الفكر عن حساب الفَوَات المحقّق في العمران بمفهومه الخلدوني، فإنّ الكثير تغيّر الآن بغيرِ رجعةٍ. فمع التصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير الذي تجسّد بقصفِ مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق، ورغم أنّ الردّ الإيراني سيكون باهتًا جدًا كالعادة كما حصل بعد اغتيال قاسم سليماني، فإنّه صار من اللازم توقّع تصعيدٍ آخر في مناطق ثانية مثل لبنان أو سورية أو الأردن.
وكما أشار الباحث حسن أبو هنيّة في إحدى مقالاته، أيقظت الحرب الدائرة حظوظ إعادة تأهيل الحركات الجهادية في المنطقة والعالم. ثمّة استخدامٌ ممنهج من جميع القوى الدولية لموضوع الإرهاب والتطرّف باعتبار ذلك أحد عناصر الضبط السياسي لاستحقاقاتٍ داخلية لدى كلّ دولة أو مجتمع على حدة، وقد تختلف من حيث التفاصيل بين استحقاقات ناتجة عن الاقتصاد أو الانتخابات أو التنافس البيني، لكنها تتفق في الجوهر بأنّها تستبعد الضغوط الإنسانية التي بدأت تدرك حجم تشابك مصالح قوى رأس المال المتحكّمة بالعالم بشكلٍ أو بآخر. تختلف المشاريع بين أميركا والصين والهند وروسيا وأوروبا وغيرها من الدول، لكنها في النهاية صراعٌ على الموارد والأسواق والنفوذ، وهو صراعُ رأس المال العابر للجنسيات والقوميات والعقائد، فهل يُخفى عن أحدٍ مثلًا حجم تشابك الاقتصاديْن الصيني والأميركي وحجم تعقيدات المنافسة بينهما في الوقت نفسه!؟
ثمّة جهدٌ كبير مطلوب من قبل الفلسطينيين لتعزيزِ المتغيّرات الجارية لصالحهم، ومثله بالمقابل مطلوب من السوريين لتجديد الاهتمام بقضيتهم
لم تَعدْ إسرائيل حجر الزاوية في تأمين المصالح الأميركية والغربية في المنطقة عموماً، بل ظهرت بحجمها الطبيعي، وعاد الناس إلى رشدهم وتبيّنوا أنّ هذا البعبع، الذي ما فتئ يتضخّم في المخيال العالمي حتى كاد يصبح أسطورة لا يمكن دحرها أو زعزعتها، هو كيانٌ هشٌّ فعلًا، ولا يقوى على الاستمرار لولا أنّ الولايات المتحدة وحلفاءها البريطانيين والألمان وغالبية الأوروبيين الغربيين قد أسندوها بما لا يمكن نكرانه، ماديّاً وسياسيّاً ومخابراتيًا، وحتى عسكريًا. في المقابل، ظهرت هشاشة بنى الدول الإقليمية في المنطقة، خصوصاً منها الدول العربية، وظهرت أيضًا بوضوحٍ كبيرٍ هشاشة مشاريع إيران التوّسعية في المنطقة، فرغم كلّ الاستثمار في القضيّة الفلسطينية المحقّة واللعب على الحبال والسير على طريق القدس الذي وصل إلى جميع مدن العرب تقريبًا إلا القدس، إلا أنّ وعي الناس باتَ أكثر جذريةٍ في الفرز بين الظاهر والباطن. يدرك الناس، بفطرتهم السليمة، الفرق بين قضيّة فلسطين (والشعب الفلسطيني والحقوق المشروعة لهم) الاستخدام السياسي لهذه الحقوق من قبل جميع الأطراف المتصارعة. هل يتصوّرنّ عاقلٌ أنّه بقي من السوريين من لم يدرك حقيقة موقف نظام الأسد من فلسطين وقضية شعبها مثلًا؟ ينطبق الأمر على العديدِ من الناس من شعوب الدول العربية وشعوب المنطقة.
في عجالةٍ، يمكن القول إنّ الثابت ليس واحداً، وإن المتغيّرات متعدّدة كذلك. من بين بعض الثوابت الأكثر إيلامًا استمرار القتل والتدمير، واستمرار الإفلات من العقاب، واستمرار سيادة مصالح الدول بما تمثله من تعبير عن سيادة مصالح رأس المال على حساب مصالح البشر. ومن بين بعض المتغيّرات الأقرب احتمالًا للتطوّر الصحوة العالمية تجاه حقوق الشعب الفلسطيني، والتضامن الشعبي المتصاعد مع القضية الفلسطينية، بينما بدأت تذوي موجات التعاطف مع السوريين وعذاباتهم. ثمّة جهدٌ كبير مطلوبُ من الفلسطينيين لتعزيزِ المتغيّرات الجارية لصالحهم، ومثله، في المقابل، مطلوبُ من السوريين لتجديد الاهتمام بقضيتهم، ويمكن بجميع الأحوال تنسيق جهود الطرفين باعتبار وحدة المصلحة في قطعِ مسارِ القتل بينهما، إن لم نقل وحدة الدم والمصير والألم والرجاء بمستقبلٍ أفضل.
كاتب ومحامٍ وحقوقي سوري، المديرالسابق للهيئة السورية للعدالة والمحاسبة، مقيم في ألمانيا.