من السودان إلى السودان

07 مايو 2023

عبّارة تجلي أفرادا من بورتسودان في السودان إلى قاعدة في جدة (29/4/2023/فرانس برس)

+ الخط -

يحقّ للرعايا العرب في السودان أن يفخروا بحكومات بلادهم التي أظهرت حدباً غير مألوف عليهم، عندما راحت تُرسل طائرات الإخلاء السريع إلى هناك، لإعادتهم إلى "مساقط رؤوسهم"، حرصاً على حياتهم "الثمينة"، التي لا ينبغي لها أن تذهب هدراً في حروبٍ عبثية.

يحقّ لهم أن يعودوا "لتسقُط رؤوسهم" في بلادهم، انطلاقاً من الحكمة العربية "ما حدا أحسن من حدا". وعلى هذا، راحت الطائرات العسكرية العربية تهرع، وتصطفّ إلى جانب نظيراتها الغربية، القادمة من واشنطن وبرلين وباريس وغيرها، في مشهد يبعث على الفخر والخيلاء.. وكلّ طائرة تنتظر "أهلها" الخارجين من المطار المزدحم بالباحثين عن "النجاة" من الحرب الأهلية المستعرة بين رفاق "الانقلاب". صحيحٌ أن الطائرات العربية جاءت متأخّرة بعض الشيء، وصحيحٌ أنها حاولت أن تحاكي ما فعله الغرب، لكن "أن تطير متأخراً خيرٌ من ألا تطير أبدًا".

ولأن "الأذن تعشق قبل العين أحياناً"، فقد عشق الرعايا العرب حكوماتهم قبل أن يشاهدوا الطائرات حتى، وتحديداً عندما سمعوا بيانات وزارات خارجياتهم، التي كانت تطلب منهم الابتعاد عن خطوط النار ومواضع الخطر، فأحسّوا بأنهم أشخاص "مهمّون"، و"محترمون"، على غرار رعايا الغرب، تماماً. صحيحٌ، أيضاً، أن البيانات إياها أعقبت نظيراتها الغربية، لكن لا يهمّ، لأن ذلك لن يُنقص من "احترامهم" شيئًا.

حدث ذلك كله قبيل إقلاع الطائرات إلى بلدانها، في مشهد "حضاريّ" نصفه عربيّ. ولا ينبغي لأحدٍ بعد ذلك أن ينتقص من الأنظمة العربية التي برهنت على أرض المطار أنها حريصة أشدّ الحرص على حياة أبنائها حيثما كانوا. كما لا ينبغي لأيّ ماكر أن يسأل: وماذا بعد العودة ... هل سيظلّ مشهد "المساواة" حاضرًا بين "الجنسين"، الغربي والشرقي؟

سأحاول تخيّل النصف الآخر من المشهد: تصل طائرات الإخلاء الغربية إلى مطارات بلادها، وما إن تحطّ عجلاتها على الأرض، حتى تكون بانتظارها مركبات إسعاف على أهبة الاستعداد، لا لنقل الجرحى والمصابين وحسب، بل لنقل الركاب كلهم إلى المستشفيات، للاطمئنان على حالاتهم النفسية جرّاء مشاهد الرعب التي عاشوها في السودان، ولن يخرج أحد من المستشفى قبل التثبّت من شفائه. بعد ذلك، تجرى مقابلات فردية مع كل عائد، لمعرفة وضعه الاقتصادي، ومعرفة ما إذا كان قادراً على تأمين احتياجاته المعيشية، سيما لمن فقد وظيفته أو أمواله في البلد المنكوب، ثمّ تُصرف المعونات لمن يحتاجها.

أما لجنة الفحص الثالثة، التي ربما لا تكون مرئية تماماً، فهي لجنة التحقّق من "سلامة الحريات" للرعايا العائدين، وهي اللجنة الأهمّ، ويتركّز عملها في التأكّد من أن العائد لم يخسر قيد أنملة من احترامه واعتزازه بنفسه، وبديمقراطية بلده، ومن أنه ما زال قادراً على التعبير عن آرائه كلها بحرية كاملة، وبلا خوف من الملاحقات، سيما أنه عائد من جغرافيا لا تعترف بهذه المبادئ.

على طرف مقابل، ستهبط طائرات الإخلاء العربية، وستكون ثمّة سيارات إسعاف ولجان تحقق، أيضاً. وسيكون عمل اللجان قبل السيارات بالطبع؛ لأن الأصل ألا يعود أيّ مواطن إلى بلده، بمن فيهم الجرحى والمصابون، قبل التأكد من الآتي:

التثبّت، أولًا، بأنه غير ملاحق بتهمة سياسية. التثبّت من دوام شعور العائد بالنقص، وفقدانه احترامه واعتزازه بذاته. التأكّد من أنه ما زال "مواطناً صالحاً"، والمقصود دوام خضوعه وولائه لنظام حكمه، ولقدرته على التصفيق والهتاف بحياة الزعيم. أما اللجنة الأخيرة فهي "لجنة الحكماء"، ومهمتها أن تبرهن للعائدين أن ما شاهدوه وعاشوه في السودان هو نتيجة بدهية لثورات الربيع العربية، ولأيّ تمرّد على أنظمة الحكم، وعليهم من ثمّ أن يصرفوا النظر عن أيّ محاولة لمناهضة أو معارضة هذه الأنظمة.

ومن ثمّ يأتي دور سيارات الإسعاف، التي لن تنقل أحداً إلى العلاج، بل تنحصر مهماتها بنقل الراسبين في اختبار اللجان إلى السجون، والمُعدمين إلى جيوب الفقر، والخاسرين وظائفهم وأموالهم إلى جحافل البطالة.

باختصار... سيعود الرعايا العرب من السودان إلى السودان.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.